المالح والعذب

3:55 م / /

المـــــالح والعـــــــذب

بقلب يدق، واعين تتلفت، جرت إلى أقرب عربة للقمامة، اخفت الكيس الورقي الأبيض والعلبة الورقية ذات اللونين الأبيض والأزرق سحبت أكياس الزبالة المجاورة باهتة اللون والمملوءة بالأتربة والقاذورات وبقايا الطعام. كونت سطحاً جديداً، غير الذي تكون منذ ثوان قليلة عندما هبطت من سلم الفيلا لتخترق أحد شوارع العاصمة، فى ذلك الوقت من الظهيرة، حيث المدينة هادئة مطمئنة، تستشري فيها رائحة النوم والتراخي، ولا يدوي صوت للعربات أو المارة، فقط تغريد الطيور وحديث الجبال الصامت لأروقة المدينة..
عادت إلى حجرتها، دفست يدها وسط كوم من الملابس الشتوية، استخرجت الزجاجة البيضاء، تحسستها، اطمأنت عليها، وضعتها على المنضدة. نقلتها إلى داخل الدرج، جربت أن تغلق الدرج، لم ينغلق .. تعارضت حافته الخشبية مع غطاء الزجاجة البلاستيك وبارتعاشة من أصابع يدها نقلت الزجاجة إلى الرف العلوي من الدولاب، استقرت على موضعها الأخير هذا، بين الزجاجتين الفارغتين القديمتين، بدت الجديدة، كما لو كانت قديمة، تماثلهما تماماً.
العبوة الدائرية البيضاء بغطائها الأبيض مكتوب عليها "رايت" ناحية اليمين، والعبوة الملاصقة لها والمشتركة معها فى نفس القاعدة البيضاء، غطاؤها الدائري الأزرق بدون كتابة، تعرف نورا أنها تخص العين اليسرى.
العبوتان الدائريتان، منذ ليال ناشفتين، تنتظران الماء المالح، غطاؤهما كاد أن يهجرهما، لولا الأيام الطويلة الطيبة، التي ربطت بينهما منذ سنوات.
سنوات .. ونورا تحافظ عليهما وعلى ما بداخلهما، لا تبدل مكانهما .. ولا تنساه لا تعرضهما لذرات التراب، تغسلهما كل ليلة، بالماء العذب تمحو بقايا الأتربة من الخارج، وبالماء المالح تجدد الخلايا لما بالداخل.
سنوات هي تمضي ...!!
وكلما مضت السنوات، تنسي نورا إنها اشترت تلك الخلايا من الطبيب، وتحسب انهما قطعتان من الجلد، فصلتهما يوما فى لحظة ميلاد جديدة، تماما كما فصلت أطفالها من جسدها.
كانت نورا تتمم كل مساء، هذا التناغم، وهذه الموسيقي فى النهار، وبرفق وهدوء تلتصق مع القطعتين الجلديتين، وتحتضن من اللحم قطعتين هما طفلاها.
وفي الليل، وبرفق وهدوء تنفصل عن القطعتين، وتنام .. وأطفالها تنام!!.
لم تكن تعلم نورا أن للحب والتواصل يوم توقف ونهاية !!
لم تكن تعرف أن للموسيقي وللتناغم انتهاء، إلا تلك الساعة الساكنة واللحظة المروعة .. حينما بدأت نورا تجرب انسكاب المحلول إلى العبوة .. ضغطت على الزجاجة، لم ينسكب شيء .. ضغطت ثانياً بشدة، تكونت فقاقيع هوائية. انفضت فى فراغ الحجرة الذي يحوطها قبل أن يصل شيء إلى العبوة .. أعادت الضغط مرات ومرات .. لم ينسكب شيء .. ارتعشت يمناها .. سارت تقلب فى الأوراق .. تفتش فى الزجاجات القديمة من أجل قطرات للماء الملحي .. لم تجد تعيد المحاولة .. قطرات .. قطرة واحدة .. واحدة يارب..!!
بسرعة أعادت القطعة الجلدية من يسراها إلى عينها اليسرى!!
تركت نورا الزجاجات الفارغة، والعبوة الفارغة والأقراص، وعلب القطرة .. تركت كل الأشياء، أبقتها فى أماكنها على حالها .. مشت خطوات بطيئة ناحية الصالة، توالت دقات قلبها .. عادت إلى الحجرة تطمئن على العبوة والزجاجات .. تبدأ من جديد المحاولة .. لا تجد شيئاً أي شيء على الإطلاق، حتى الفقاقيع الهوائية انتهت، لتنتهي معها آخر أمل فى حفظ القطعة الجلدية.
تزرع نورا أرض الغرفة ذهابا وإيابا بقدميها الحافيتين، وساقيها اللتين تبدوان وسط الظلام كما لو كانا عمودين من نور، تسوقها خطاها إلى المطبخ تضع يدها المرتعشة على الباب .. تدخل .. تقف .. تستوقف ما حولها .. تسحب أطباقا من أعلى الرف الخشبي، تجدها نظيفة .. تغسلها .. تعيدها مكانها .. تحمل طفلها .. يبكي .. تعطيه ملعقة .. يسكت، تفتش عن ملابسه، تجدها نظيفة .. تذهب إلى الحجرة .. تستبدل ملابس طفلها بملابس أخرى، تدنو من المنضدة الخشبية حيث العبوة، والزجاجات، والحسرة، والمحاولة .. والمحاولات تبدأ فى اشتهاء قطرة من الماء المالح .. وفي كل مرة تأبي الزجاجة عن الإدرار بالماء المالح.
باتت نورا ليلتها وعيناها مفتوحتان، مثقلتان، بالرموش وبالقطع الجلدية، عيناها العسليتان الواسعتان، اللتان تناجي بهما وتتحدث، تراهما الآن فى المرآة، مجهدتين، مؤرقتين، تودان التخلص من هذا الحمل الثقيل ...
سحبت من رص الأوراق جريدة، كلماتها وأحرفها صغيرة، لا تظهر لعينها، سحبت مجلة .. تقلب الصفحات، تقرأ العناوين .. تتوقف عن القراءة .. تغلق الصفحات والمجلة كلها .. تؤجل القراءة للأيام والأسابيع القادمة .. تقرر إلغاء القراءة تماما من حياتها .. تؤجل أن تنظر .. أو تتأمل، فالغيوم كأنها الدخان ينعكس على الأحرف وحبر الكلمات ...
أعادة الجريدة، والمجلة مكانهما، أراحت رأسها الصغيرة، تهدل شعرها الأصفر على الحافة الخشبية للمنضدة، غلبها النعاس، لحظة خاطفة، هبت مفزعة، فتحت عينيها، شعرت بالخوف والرهبة والتحسر، كيف نامت، كيف أغمضت جفنيها .. مسحت بأصابعها الجفون لتتمكن من الرؤية، تلبدت الغيوم أمامها أكثر، لم تر سوي هالات رمادية تحيط بالأشياء من حولها !!
فى الظهيرة .. وفي كل ظهيرة .. يتجمع حول المنضدة من المقاعد ثلاثة، ومن الحضور ثلاثة ..
نورا بوجهها المشرق، وابتسامتها الهادئة .. والزوج بأنفه الطويل، وتكشيرته المتواصلة الناطقة عن تخاصمه مع الأيام، وثالثهما الحوار الصامت الذي ينتقل بينهما، يسمعانه، ولا ينطقان بكلمة واحدة.
يمد الزوج يده، يرتشف بعضا من الحساء .. يحدث صوتا غليظاً .. يلسع زوجته بنظرة " آه يا نورا .. كم تبدين أمامى حلوة .. حلوة أنت بيضاء كما اخترتك، لكن حديثك عذب .. كان الطهي والأطباق مكانا للقاء، وكان صراخ الأطفال وعويلهم، مادة حديثنا".
تمد نورا يدها .. تقطع قطعة لحم حمراء، تضعها فى طبق الزوج، تحدث نفسها: "هل أبدأ أفاتحه الآن؟! هل انطق وأقول أنا فى حاجة إلى .. وإلى، لا .. ليس الآن، بعد قليل، بعد يوم أو يومين وهل انتظر أياما أخرى .. لا .. بل بعد ثوان عندما أناوله قطعة اللحم التالية التي يفضلها ..!!"
يمسك الزوج بيمناه على سكينته .. يلتقط بالشوكة التي في يسراه ما أعطته نورا له .. يسقطها رأساً فى فمه .. يهز رأسه .. يهز قدمه اليسرى، محدثا نفسه ".. أوه .. أين أنت يا نورا من جارتك .. إلا تتعلمين منها شيئاً، انها سيدة تعرف كيف تميز وتختار، حتى ملابسها تعكس فيها شخصيتها، وأنت معي، سنوات .. عشر تعارضينني، لا ترتدين شيئاً من اختياري ..!! آه لكن عينيك حلوتان، وأعنابك مازالت حلوة .. حلوة لم تزل!!
وفي المساء .. وفي كل مساء!!
يتجمع حول المنضدة من المقاعد ثلاثة، ومن الحضور ثلاثة نورا بوجهها المشرق وابتسامتها العذبة وجارتها بملامحها الحادة وشعرها الملموم على رأسها .. وثالثهما الحوار الناطق .. حوار تبدأه الجارة وتنهيه دائماً.
- تبدين اليوم أكثر تعباً من الأمس.
نورا هل لاتسمعنني؟!!
نطقت نورا بصوت غير مسموع
آه .. حقاً لم أذق النوم!!
مدت الجارة يدها أحدثت الأساور الذهبية فى معصمها صوتاً به شيء من الصلصلة.
أفاقت نورا من شرودها ناولت جارتها الكراسة، مفتوحة على واجب الأمس بدأت الجارة تضع درجات الصح والخطا ونورا تراقبها تطمئن على تحصيل ابنتها الكبرى ولا تبالي بالشيء الجلدي الذي يؤرقها بين الجفون، وتبتسم نورا لأن علامة الصح تملأ الصفحة وتنتهي بثلاث نجمات صغيرة باللون الأحمر وكلمة ممتازة!!
مدت نورا يدها وبين أصابعها قطعة من الشيكولاتة تقربها من فم جارتها لم تكرر نورا المحاولة ثانياً، حين ردتها جارتها عليها بل سرت وهي تباعد عنها ورقة مفضضة وتضعها فى فمها تأكلها تمتصها .. وبعد الانتهاء تبلع ريقها، أصبحت نورا فى راحة وقتية وهي تفتح عينيها والغيوم تكاد تنجلي أمامها للحظة أو لحظتين.
مدت الجارة يدها غرستها فى قلب "العلبة" الفضية – أخذت واحدة ثانية أكبر حجماً من الأولي قشرتها بسرعة فتحت فم نورا بمداعبة ضاحكة.
كلي يا نورا .. اتغذي!!
بدأ الدرس اليومي ونورا تروح وتجئ حول الأولاد.
انتهي درس الحساب وبدأ درس القراءة جلست نوار على المقعد الجانبي تتصفح الجزء الأول .. تقرأ العناوين "أسرة فارس" "لعبة ريم" "تمور سمائل".
تتذكر أناشيد الطفولة "بلادي .. بلادي" "سوسن ونصر" شعرت نورا بشيء من الشجن والحنين إلى الأهل والوطن والحارة الضيقة .. وبرج الحمام القديم .. أخذها الشرود .. راحت تتسمع لكل الأصوات من حولها .. لبكاء طفلها، تتسمع إلى حفيف الشجر المطل من نافذة الحجرة .. تتسمع إلى صريف القلم فى يد جارتها حين يتحرك بالكتابة.
بعد قليل من الصمت وفجأة تحولت حروف الهجاء والكلمات من الجمل الخبرية العادة فى درس المطالعة إلى جمل إنشائية فيها من التعجب والتألم والتمني والترجي والاستفهام الكثير: ما بك يا نورا: أراك حائرة كأنك تحتاجين شيئاً دفيناً ... الست مثل أختك؟!
" حـ. حـ لـ .. و .. ل" الملح .. خرجت من فم نورا بطيئة وضعيفة .. تحمل المرارة التي في حلقها .. وصلت الأحرف إلى سمع نورا كأنها بعيدة تماماً عنها، كانها صادرة من مكان بعيد .. أشارت إلى عينها .. إلى الجفون التي تقرحت.
ظللت الجارة .. تتأمل وجه نورا .. ضعيفة هي .. هدها السهر .. هزيلة شاحبة الوجه .. فتحت باب النافذة حركت الستار قليلاً .. كانت قطرات المطر الثلجية وهي تتكثف على الزجاج تحدث صوتاً .. أفاقت نورا عليه هبت مسرعة .. بخفقان شديد .. مدت يدها خارج النافذة اطلقتها في قلب الفضاء .. استقبلت فوق يمناها قطرات صنعت بتجاعيد وخطوط اليد بئرا صغيراً مرت ثوان ملء البئر بالماء، حافظت نورا على بقائه جلست على المقعد .. اطمأن قلبها.
بللت السبابة اليسرى بماء المطر قربتها من لسانها بدأت تتذوق لأول مرة طعما ملحياً فى فمها أطمأنت أكثر .. نظرت إلى العبوة البيضاء.
هبت مسرعة إلى الحجرة والعبوة والزجاجات الفارغة .. جذبت العبوة .. قربتها من الفراغ المحيط بالنافذة أبعدتها أقصي ما تبتعد يداها .. انتظرت فترة من الوقت لم تبتل العبوة ولو بقطرة واحدة كانت الدنيا قد انتهي مطرها وسراجها .. ولم تعد هناك قطرات تساقط بل انهار صغيرة تكونت على الأرض .. اندمجت مع الأتربة صارت خطوطاً من الوحل.
عادت نورا إلى مقعدها .. عاودت نطق الكلمة التي لم تتعد مسامعها "محـ .. لو .. ل .. الملح" والذي لم يصل منه شيء إلى جارتها .. جارتها الصديقة والقريبة من أعماقها .. ترسل نظراتها لتستشف ما في أعماق نورا .. دون جدوى .. تواصل قراءة جمل المطالعة التي تلاشت مع صوت السيارات المنبعث من النافذة.
صوت السيارات تناهي عند جمل المطالعة ويذكر نورا بتلك الساعة من الظهيرة وهي حائرة مجهدة تبحث يميناً ويسارا خارج القطار وداخله عن قطرة من الماء المالح .. تتعب ويستبد بها التعب وينتهي عند طرف لسانها حين أخرجته ووضعت العدسة أسفله تتخذ من الريق محلولا تسبح فيه.
وتتذكر نورا كيف كانت المسافة طويلة ومثقلة ولسانها يقوم بحراسة دائمة حتي تصل إلى البيت .. وكلما توقف القطار فى محطة من المحطات تزداد أرقا وألما ..
أوشكت الجارة من إنهاء الدرس .. نظرت إلى نورا بحنو .. دنت منها .. سألتها.
نورا .. أنت فى حاجة إلى شيء .. هل هو..
نطقت نورا هذه المرة بصوت مسموع أشارت إلى الزجاجة البيضاء الفارغة.
انتهي المحلول وأريد أن ولكن
قاطعتها الجارة، أسرعت ووضعت يسراها على فمها، ولم تنطق سوي كلمة واحدة "فهمت".
جذبت حقيبتها السوداء .. امسكت بالزجاجة البيضاء قرأت باللون الأزرق "هايدروكير" تهجت حروفها .. ربطت بين النصف الأول من الكلمة وبين اسم طفلة صغيرة تحبها وتعطيها الدرس اليومي وتكون سعيدة وهي .. تسأل "فين هايدي".
ودعت نورا جارتها أغلقت دونها الباب، خرج شعاع طالما أضاء على حياتها أياما وأعواماً !!

وفي المساء وبينما كانت أمام المرأة تفتح وتغمض عينيها تربت على طفلها وفي عقلها ترتب الكلمات وتتناثر التساؤلات عن كيفية الذهاب كيفية الحصول على ثمن الشراء كيفية اختيار الوقت المناسب.
للإفاضة بالتساؤلات هل بعد ساعة !! أم بعد أيام!! أم بعد شهور بينما كانت نورا تعيش فى تلك التساؤلات وجدت شعاعاً يلمع فى المرآة أضاء حجرتها تلفتت!!
كانت زجاجة محلول الملح البيضاء مجسدة أمامها بعلبتها اللامعة تهجت نورا الخطوط السماوية لحروف اللغة الإنجليزية نطقت الكلمة مرة واحدة ببطء وفرحة عامرة .. ها .. يد .. ر .. و .. كير.
غابت نورا فى سعادة أبدية ولم تنتبه لمحاولات جارتها وتأبيها أن تأخذ ثمن المحلول المالح.

التسميات: