الـــميـــــــراث
كانت واقفة. وعينيها واقفة. ودمعتان عند أعلى الخد تنحدران والحد نهرٌ عارٍ .
فجأة ..
غطته يدان.
فجأة، صنعت يسراها ويمناها سدا ضعيفاً.
يسد المدي. يسد الأفق. يسد الصوت، صوته..
صدئا كان !
ثعبان كان، يزحف على صدرها.. يدغدغ أية محاولة منها للنطق
لم تنطق.
أشارت مكامن الروح، ربما يرق
يلين، يتحرك، عكس اتجاهه.
اتجاهه إليها ثابتاً كان.
لن يحيد عنه، لو تحركت الجبال الآن – أو تنهدت الأرض بأنفاسها، لن ينطفئ هذا الاحتشاد. الغائر فى صدره لو أرسلت من عينيها نورا قمرياً، لن يمحو حلكة الليل فى أغوار نفسه ...
شذرات حمراء، تطلقها عيناه على ثوبها النائم فيستيقظ تيقظت خيوطه، يحسن نسيجه القطني إلى راحته بين عيدانه .. يحن إلى جذور شجرته الأم، فيلتف الثوب الشتوي الثقيل ببطء .. يدنو.
ينأى عن جسدها والملابس الصيفية التي ترتديها.
....
المكتب الخشبي كان ...
نهاية الخطي المتعبة، والخطي المثقلة.
عند ركنه الأخير، ووقفت هي، ووقف هو..
هي ..
الابنة فتاة السابعة عشر، .. الأيام، كالمشاوير، كالأمنيات، كالحدود وردية لم تزل.
هو...
الأب. رجل الستين، التاجر، صاحب الأطيان .. الأيام، كالمشاوير كالأمنيات، كالسواعد ناشفة .. منتهية.. مثقلة بهموم السنوات وبصمت زوجته.
زوجته..!!
أم البنات .. سبعة .. من المواجع سبعة .. من العلل سبعة وأخيرا .. جاء الولد ..!!
لم ينتبه الأب إلى طول ابنه الذي يكاد يقاربه ويفوق إلا هذه اللحظة.
هذه اللحظة..
تظهر أم البنات، وتختفي يدها على خدها ثلاثين عاما، ثلاثون عاما .. ، كرمشات الأصابع تصنع عددا لا نهائياً من قنوات الحزن والمخاوف.
تظهر أم البنات. تلمح ساعة الحائظ. تبرق عيناها. تختفي وحدها. بهمس وحسرة تنطق دون أن يسمعها الصمت دون أن يسمعها الصوت، صوته الأعلى.
... " يا ترى أنتي فين يا بنتي؟ "
المنديل على رأسها أسود الملامح أبيض اللون، خلعته رفعت يدها إلى أعلى ما تستطيع إعلائه .. تناجيه فى السماء.
.... " استر على ولايايا يارب "
الساعة تعدت السابعة بعد الظهر .. تروح، تجيء فى الدوار. جلست على بسطة الدرج. أعياها التعب .. سمعت حركة أقدام تسير أمام الدوار. نهضت من مكانها. تلصصت من القارق بين ضلفة الشباك والحائط السماوي اللون .. تراها هي؟!
ليست هي، ملابسها لم تزل خفيفة، وقد حل الشتاء .. وحذاءها لم يزل رقيقاً، وقد بلل المطر أرض الحارة.
ليست هي، فمازال شعرها نائماً فى ضفيرة طويلة تنتهي إلى شريط باهت اللون "قصقوصة" من بقايا الثوب.
...
أعادة الأم ضلفة الشباك إلى موضعها فى صمت العائدين من تشييع جنازة. أحدثت الضلفة صوتاً كسيراً .. وبصوتها الخفيض ظلت تتمتم، وتلعن في "الكلية واللى طلعوا العلام".
دقت الساعة الثامنة.
الأب مازال يجلس على كرسي الخيرزان. يحرك الشلتة الدائرية القديمة يضبطها تماماً في جلسته يدق بأنفاسه وبكفه على المسند .. ينفخ غليونة الأسود " أوطي من نعل الجزمة"
و .. تقبل ناحيته فى انكسار من هي أوطى من نعل الجزمة بظهرها المثعب وتنحنى ..
- أهدأ يأبو البنات – زمانها جاية فى السكة.
فى السكة الزراعية عربات كارو، وعربات الحنطور، وباعة ومتجولون أوشكوا أن ينهوا تجوالهم فى نهار الشتاء القصير. هبط من العربة شاب أسمر، يحرك الهواء قميصه الأنيق، فيلتصق على صدره، وتظهر ذراعه نحيفة. يحتضن أوراقه وكتبه الجامعية: خطواته يسير بها مسرعاً ناحية الدار. يدق الباب الخشبي .. لا يسمع رداً، ولا ينفتح الباب، فيدق الجرس الصدئ بصعوبة .. ترتعش أم البنات – تجرى إلى الباب تفتح. تجري، إلى المطبخ، تحضر الغذاء.
شيئاً غير عادي يحدث. يضيق صدر أخو البنات .. همس، تنقلات هممات، حركات لها أصوات .. لأول مرة، لم تحضر له أخته الصغرى كوب الشاي بعد الغذاء .. يتلفت على أركان الدار على أبواب الحجرات .. يتنقل .. يزرع أرض وسط الدار بقدميه.
و ... "فين البنت" .. عالية تنطق كلماته .. تصعد إلى عرش الدار فيهتز، وتهتز الجدران، ويهتز قلب الأم خوفاً من .. وخوفا على.
ويصدر الرد .. "فى الكلية" .. بطيئة كلماتها. حفيضة، مرتعشة ومنتهية. أمام عينيه؟!
عيناه آثرت الانتظار حتى تأتي أخته .. حتى تأتي أخته
ألام تقسم وقتها بين الابن، وبين الزوج .. و "زمانها جاية" تنطقها تارة فى الصالة وتارة في الحجرة وتعاود ثانية .. تنطقها أمام الأعين المنتظرة تارة، وتارة عند الدخان وكرسي الخيرزان لم يقعدها سوي يد الابن وهي تطيح بها .. واليد الأخرى أطاحت بالمنضدة، فانقلبت على الأرض بقارب (المرقة) وتناثرت حبات الخضار وارتدت إلى الأطباق الملاعق.
وبعد أن استراح على الكرسي الخشبي ضاربا كفا بكف "والله عال" ضغط بأصبعه منتصف الجفن بين العينين، أطبق الجفنين أراد شيئاً من النوم المنقطع.
... ...
تنبه على صوتها. هب واقفاً "لقد أقبلت"
كانت تتسلل درجات السلم الخشبي واحدة وراء الأخرى محاولة أن تخفي صوت الصعود. وجرت إلى حجرتها. مكتبها. حشرت نفسها بينه وبين الحائط وبسرعة دثرت نفسها بثوبها الشتوي الواسع. تنتظر المصير من الأب.
لاحقها الأب مسرعاً والعصي الغليظة يمسكها من أعلاها، يرفعها إلى أعلى ما يستطيع. اتجاهه إليها لن يحيد عنه لو تحركت الجبال الآن، أو تنهدت الأرض بأنفاسها، لن ينطفئ هذا الاحتشاد الغائر فى صدره، لو أرسلت من عينيها نورا قمرياً لن يمحو حلكة الليل فى أغوار نفسه.
.....
تنبه الأخ إلى صوتها. نشف ساعديه . .ودخل بهما الحجرة. زعق الباب. عوى المكتب عندما وصل إليه.
عندما وصل نظر إليه الأب. تأمله ابنه .. توقف قليلاً. غاب بعقله" .. لقد سار يقاربني في الطول، ربما يفوقني بكثير. ساعداه ما أقواهما أنشف من ساعدي. وكتفه أعرض حميته متقدة وكفه حينما يضرب خدها سيكون تأثيرهما أقوى"
خطوتان إلى الخلف. تراجع أبو البنات. عكس اتجاه عنها.
خطوتان إلى الأمام. تقدم أخو البنات. صوب اتجاهه الآن إليها.
كانت واقفة. وعينيها واقفة. ودمعتان عند أعلى الخد تنحدران والحد نهرٌ عارٍ .
فجأة ..
غطته يدان.
فجأة، صنعت يسراها ويمناها سدا ضعيفاً.
يسد المدي. يسد الأفق. يسد الصوت، صوته..
صدئا كان !
ثعبان كان، يزحف على صدرها.. يدغدغ أية محاولة منها للنطق
لم تنطق.
أشارت مكامن الروح، ربما يرق
يلين، يتحرك، عكس اتجاهه.
اتجاهه إليها ثابتاً كان.
لن يحيد عنه، لو تحركت الجبال الآن – أو تنهدت الأرض بأنفاسها، لن ينطفئ هذا الاحتشاد. الغائر فى صدره لو أرسلت من عينيها نورا قمرياً، لن يمحو حلكة الليل فى أغوار نفسه ...
شذرات حمراء، تطلقها عيناه على ثوبها النائم فيستيقظ تيقظت خيوطه، يحسن نسيجه القطني إلى راحته بين عيدانه .. يحن إلى جذور شجرته الأم، فيلتف الثوب الشتوي الثقيل ببطء .. يدنو.
ينأى عن جسدها والملابس الصيفية التي ترتديها.
....
المكتب الخشبي كان ...
نهاية الخطي المتعبة، والخطي المثقلة.
عند ركنه الأخير، ووقفت هي، ووقف هو..
هي ..
الابنة فتاة السابعة عشر، .. الأيام، كالمشاوير، كالأمنيات، كالحدود وردية لم تزل.
هو...
الأب. رجل الستين، التاجر، صاحب الأطيان .. الأيام، كالمشاوير كالأمنيات، كالسواعد ناشفة .. منتهية.. مثقلة بهموم السنوات وبصمت زوجته.
زوجته..!!
أم البنات .. سبعة .. من المواجع سبعة .. من العلل سبعة وأخيرا .. جاء الولد ..!!
لم ينتبه الأب إلى طول ابنه الذي يكاد يقاربه ويفوق إلا هذه اللحظة.
هذه اللحظة..
تظهر أم البنات، وتختفي يدها على خدها ثلاثين عاما، ثلاثون عاما .. ، كرمشات الأصابع تصنع عددا لا نهائياً من قنوات الحزن والمخاوف.
تظهر أم البنات. تلمح ساعة الحائظ. تبرق عيناها. تختفي وحدها. بهمس وحسرة تنطق دون أن يسمعها الصمت دون أن يسمعها الصوت، صوته الأعلى.
... " يا ترى أنتي فين يا بنتي؟ "
المنديل على رأسها أسود الملامح أبيض اللون، خلعته رفعت يدها إلى أعلى ما تستطيع إعلائه .. تناجيه فى السماء.
.... " استر على ولايايا يارب "
الساعة تعدت السابعة بعد الظهر .. تروح، تجيء فى الدوار. جلست على بسطة الدرج. أعياها التعب .. سمعت حركة أقدام تسير أمام الدوار. نهضت من مكانها. تلصصت من القارق بين ضلفة الشباك والحائط السماوي اللون .. تراها هي؟!
ليست هي، ملابسها لم تزل خفيفة، وقد حل الشتاء .. وحذاءها لم يزل رقيقاً، وقد بلل المطر أرض الحارة.
ليست هي، فمازال شعرها نائماً فى ضفيرة طويلة تنتهي إلى شريط باهت اللون "قصقوصة" من بقايا الثوب.
...
أعادة الأم ضلفة الشباك إلى موضعها فى صمت العائدين من تشييع جنازة. أحدثت الضلفة صوتاً كسيراً .. وبصوتها الخفيض ظلت تتمتم، وتلعن في "الكلية واللى طلعوا العلام".
دقت الساعة الثامنة.
الأب مازال يجلس على كرسي الخيرزان. يحرك الشلتة الدائرية القديمة يضبطها تماماً في جلسته يدق بأنفاسه وبكفه على المسند .. ينفخ غليونة الأسود " أوطي من نعل الجزمة"
و .. تقبل ناحيته فى انكسار من هي أوطى من نعل الجزمة بظهرها المثعب وتنحنى ..
- أهدأ يأبو البنات – زمانها جاية فى السكة.
فى السكة الزراعية عربات كارو، وعربات الحنطور، وباعة ومتجولون أوشكوا أن ينهوا تجوالهم فى نهار الشتاء القصير. هبط من العربة شاب أسمر، يحرك الهواء قميصه الأنيق، فيلتصق على صدره، وتظهر ذراعه نحيفة. يحتضن أوراقه وكتبه الجامعية: خطواته يسير بها مسرعاً ناحية الدار. يدق الباب الخشبي .. لا يسمع رداً، ولا ينفتح الباب، فيدق الجرس الصدئ بصعوبة .. ترتعش أم البنات – تجرى إلى الباب تفتح. تجري، إلى المطبخ، تحضر الغذاء.
شيئاً غير عادي يحدث. يضيق صدر أخو البنات .. همس، تنقلات هممات، حركات لها أصوات .. لأول مرة، لم تحضر له أخته الصغرى كوب الشاي بعد الغذاء .. يتلفت على أركان الدار على أبواب الحجرات .. يتنقل .. يزرع أرض وسط الدار بقدميه.
و ... "فين البنت" .. عالية تنطق كلماته .. تصعد إلى عرش الدار فيهتز، وتهتز الجدران، ويهتز قلب الأم خوفاً من .. وخوفا على.
ويصدر الرد .. "فى الكلية" .. بطيئة كلماتها. حفيضة، مرتعشة ومنتهية. أمام عينيه؟!
عيناه آثرت الانتظار حتى تأتي أخته .. حتى تأتي أخته
ألام تقسم وقتها بين الابن، وبين الزوج .. و "زمانها جاية" تنطقها تارة فى الصالة وتارة في الحجرة وتعاود ثانية .. تنطقها أمام الأعين المنتظرة تارة، وتارة عند الدخان وكرسي الخيرزان لم يقعدها سوي يد الابن وهي تطيح بها .. واليد الأخرى أطاحت بالمنضدة، فانقلبت على الأرض بقارب (المرقة) وتناثرت حبات الخضار وارتدت إلى الأطباق الملاعق.
وبعد أن استراح على الكرسي الخشبي ضاربا كفا بكف "والله عال" ضغط بأصبعه منتصف الجفن بين العينين، أطبق الجفنين أراد شيئاً من النوم المنقطع.
... ...
تنبه على صوتها. هب واقفاً "لقد أقبلت"
كانت تتسلل درجات السلم الخشبي واحدة وراء الأخرى محاولة أن تخفي صوت الصعود. وجرت إلى حجرتها. مكتبها. حشرت نفسها بينه وبين الحائط وبسرعة دثرت نفسها بثوبها الشتوي الواسع. تنتظر المصير من الأب.
لاحقها الأب مسرعاً والعصي الغليظة يمسكها من أعلاها، يرفعها إلى أعلى ما يستطيع. اتجاهه إليها لن يحيد عنه لو تحركت الجبال الآن، أو تنهدت الأرض بأنفاسها، لن ينطفئ هذا الاحتشاد الغائر فى صدره، لو أرسلت من عينيها نورا قمرياً لن يمحو حلكة الليل فى أغوار نفسه.
.....
تنبه الأخ إلى صوتها. نشف ساعديه . .ودخل بهما الحجرة. زعق الباب. عوى المكتب عندما وصل إليه.
عندما وصل نظر إليه الأب. تأمله ابنه .. توقف قليلاً. غاب بعقله" .. لقد سار يقاربني في الطول، ربما يفوقني بكثير. ساعداه ما أقواهما أنشف من ساعدي. وكتفه أعرض حميته متقدة وكفه حينما يضرب خدها سيكون تأثيرهما أقوى"
خطوتان إلى الخلف. تراجع أبو البنات. عكس اتجاه عنها.
خطوتان إلى الأمام. تقدم أخو البنات. صوب اتجاهه الآن إليها.