سحابة على وجه النهار
-1-
عندما تدلت برأسها نحو وليدها الصغير لتطبع على وجنتيه قبلة الصباح الوردية، وتمد زراعيها لتضم ابنها وابنتها إلى حضنها الدافئ، كانت الشمس بدورها تودع الغسق بحنان، وتستقبل باكورة اليوم وترميها دفنا وأمانا على هذه الناحية المهملة والموحشة من الجانب الخلفي لهذا البيت العائلي الواسع والقريب من "قهوة الساعاتي" المعروفة بتلك القرية.
واليوم يا فتحية هو أول أيامك بعد انقضاء عدة زوج كأربعة أشهر وعشرة أيام !!
لم يكن لك ياذات الأيدي الناعمة والمشاعر الحانية والرؤى الحالمة أن يتبدل مكان نومتك وأقامتك وتتركين الأسرة البيضاء والمزركشة بأبهى الألوان وأجمل الأثواب والأغطية، لتستقبلك الأتربة وعناكب الحجرة المهترئة القديمة.
كان موقعك على قمة الدوار الكبير لوسط الدار، تجلسين وقت العصارى فى انتظار أبو الأولاد ليقبل عليك كما يهل هلال العيد، ويداه مبسوطتان لك بأطيب ثمار الفاكهة، وتتوالي من عينيه ابتسامات تضيء لك الطريق المؤدي إلى حجرة الليل الهانئ حيث تلعب صبيانك حول شجرة الجميزة، ثم تنقلين برقتك المعهودة الطعام من فمك إلى فم أطفالك وتطلقين ضحكة منتشرة، ليستضئ بها الفراغ حول مقاعد عائلتك..
عائلتك التي كانت تخيط الحب والحنان بخيوط فى أثواب الأوقات والأزمات، وتفترش الهناءات والابتسامات على أقدام الأب والأم، فتنتشي الأطفال كطيور حامت حول عشها الأثير.
(تذهب فتحية وأولادها إلى الزريبة القديمة) قالها الأخ بصوت عال ومحشرج
- أخونا ومات .. يبقي تمشي من قعدتها فى الدوار.
كنت تبتسمين للحوار، ويداك ترتعشان، وهي تلمس العباءة الصوف للمرحوم زوجك ورجلك .. وحامي وحدتك. هل تتذكرين، وتتذكرين أن طفلك وقتها اخرج بؤبؤه الصغير بعيداً عن ثديك مفزوعا حين نهره عمه:
- " ياللا يا خوى انت وهو .. من هنا"
تذكرين وأنت تلملمين حاجياتك وحاجيات أطفالك .. ملابسهم .. ألعابهم .. حقائبهم .. ضحكاتهم .. صرخاتهم كنت تجمعين ما تبعثر منك وتهرولين إلى الزريبة !!.
يا لها من جدران متهدمة، ويا لها من أوقات حارة وضائقة بالمكان الضيق.
-2-
عندما أخذا طريقهما من منزلهما بالقرب من قهوة الساعاتي المشهورة ، وتأملا حنايا البيت العائلي القديم وقد بدأ من بعيد نصفه الخلفي كأنه قطعة من الجنة، بكل هذا البناء الضخم المنمق بنقوش رخامية وجرانيتيه تشد الأنظار، كانت علامات الأسى والاعتذار ترسم على ملامح وجهيهما "والله وصبرت ونلت يا فتحية"
" والله يا مرات أخويا طلعت بستين راجل"
الأضواء المنعكسة من الجزء الخلفي للبيت تعطي جمالا للمكان وتنام الأشعة على الدوار الكبير بعد أن تهدمت جدرانه وتساقطت جزيئات من طمي الجدار لترتمي أسفل الباب الخشبي الذي انخفض بعلوه عن مستوي الطريق.
مازالا بعمامتهما البيضاء يقفان، يزرعان بأقدامهما أرض الطريق، تراهما يقارنان بين البابين المتجاورين باب الدوار وبوابة بيت فتحية وأولادها .. وبين الجدران والجدران وبين النوافذ والنوافذ.
ظلا فى مكانهما حتى دار قرص الشمس، وأصبحت القرية فى إيلاج ليلها من نهارها فى نصف الكرة الأرضية وأصبح البيتان المتلاصقان فى نصفين ظلام ونور .. فى نصفين ليل ونهار.
-1-
عندما تدلت برأسها نحو وليدها الصغير لتطبع على وجنتيه قبلة الصباح الوردية، وتمد زراعيها لتضم ابنها وابنتها إلى حضنها الدافئ، كانت الشمس بدورها تودع الغسق بحنان، وتستقبل باكورة اليوم وترميها دفنا وأمانا على هذه الناحية المهملة والموحشة من الجانب الخلفي لهذا البيت العائلي الواسع والقريب من "قهوة الساعاتي" المعروفة بتلك القرية.
واليوم يا فتحية هو أول أيامك بعد انقضاء عدة زوج كأربعة أشهر وعشرة أيام !!
لم يكن لك ياذات الأيدي الناعمة والمشاعر الحانية والرؤى الحالمة أن يتبدل مكان نومتك وأقامتك وتتركين الأسرة البيضاء والمزركشة بأبهى الألوان وأجمل الأثواب والأغطية، لتستقبلك الأتربة وعناكب الحجرة المهترئة القديمة.
كان موقعك على قمة الدوار الكبير لوسط الدار، تجلسين وقت العصارى فى انتظار أبو الأولاد ليقبل عليك كما يهل هلال العيد، ويداه مبسوطتان لك بأطيب ثمار الفاكهة، وتتوالي من عينيه ابتسامات تضيء لك الطريق المؤدي إلى حجرة الليل الهانئ حيث تلعب صبيانك حول شجرة الجميزة، ثم تنقلين برقتك المعهودة الطعام من فمك إلى فم أطفالك وتطلقين ضحكة منتشرة، ليستضئ بها الفراغ حول مقاعد عائلتك..
عائلتك التي كانت تخيط الحب والحنان بخيوط فى أثواب الأوقات والأزمات، وتفترش الهناءات والابتسامات على أقدام الأب والأم، فتنتشي الأطفال كطيور حامت حول عشها الأثير.
(تذهب فتحية وأولادها إلى الزريبة القديمة) قالها الأخ بصوت عال ومحشرج
- أخونا ومات .. يبقي تمشي من قعدتها فى الدوار.
كنت تبتسمين للحوار، ويداك ترتعشان، وهي تلمس العباءة الصوف للمرحوم زوجك ورجلك .. وحامي وحدتك. هل تتذكرين، وتتذكرين أن طفلك وقتها اخرج بؤبؤه الصغير بعيداً عن ثديك مفزوعا حين نهره عمه:
- " ياللا يا خوى انت وهو .. من هنا"
تذكرين وأنت تلملمين حاجياتك وحاجيات أطفالك .. ملابسهم .. ألعابهم .. حقائبهم .. ضحكاتهم .. صرخاتهم كنت تجمعين ما تبعثر منك وتهرولين إلى الزريبة !!.
يا لها من جدران متهدمة، ويا لها من أوقات حارة وضائقة بالمكان الضيق.
-2-
عندما أخذا طريقهما من منزلهما بالقرب من قهوة الساعاتي المشهورة ، وتأملا حنايا البيت العائلي القديم وقد بدأ من بعيد نصفه الخلفي كأنه قطعة من الجنة، بكل هذا البناء الضخم المنمق بنقوش رخامية وجرانيتيه تشد الأنظار، كانت علامات الأسى والاعتذار ترسم على ملامح وجهيهما "والله وصبرت ونلت يا فتحية"
" والله يا مرات أخويا طلعت بستين راجل"
الأضواء المنعكسة من الجزء الخلفي للبيت تعطي جمالا للمكان وتنام الأشعة على الدوار الكبير بعد أن تهدمت جدرانه وتساقطت جزيئات من طمي الجدار لترتمي أسفل الباب الخشبي الذي انخفض بعلوه عن مستوي الطريق.
مازالا بعمامتهما البيضاء يقفان، يزرعان بأقدامهما أرض الطريق، تراهما يقارنان بين البابين المتجاورين باب الدوار وبوابة بيت فتحية وأولادها .. وبين الجدران والجدران وبين النوافذ والنوافذ.
ظلا فى مكانهما حتى دار قرص الشمس، وأصبحت القرية فى إيلاج ليلها من نهارها فى نصف الكرة الأرضية وأصبح البيتان المتلاصقان فى نصفين ظلام ونور .. فى نصفين ليل ونهار.