طعم الشهيق

2:58 م / /

طعم الشهيق
خرجت من هذا المكان .. لا يجرى على لساني .. سوي كلمتين
" الحمد لله على نعمة الحياة ..!
" الحمد لله على نعمة الحياة ..!
ارتكزت بيدى على السلم الحديدي ... بينما قدماى جعلت أنقلهما على مهل خطوة .. بخطوة !!
مازلت أنطق بصوت يكاد يكون مسموعاً لمن حولي .. الصاعدون والهابطون على السلم .. ينظرون إلى وأنا مازلت أتعثر فى درجات السلم من شدة الفرح .. أبتسم .. والدموع تتساقط دون أن أدرى وأردد..
" الحمد لله على نعمة الحياة !!
الحمد لله أنني أتنفس. وأن الأنفاس لا تباع ولا تشتري وأن أحداً لا يتحكم فى شهيقي وزفيري .. وأن الآخرين في هذه الدنيا .. والمتحكمون في الرأي والحركة والكلمة .. ليس فى مقدورهم أن يتحكموا فى الأنفاس ..".
....
كنت أنقل قدمي على السلم ...!
أنظر عن اليمين . أتأمل جانبه الزخرفي .. اهبط درجة أو درجتين ثم أنتظر .. أعود للصعود درجة أو درجتين. أنظر ناحية الشمال لأتأمل المرايات المتراصة بجانب بعضها. آخذ نفساً عميقاً .. وكأني أتميز عن كل الكائنات بملكيتي لنفسي وبهذا الشهيق الحلو..!
.. لم أهتم بمكان حجرة الطبيب الذي يسلمني تقرير الأشعة هل هو فى الدور العلوي أم الدور السفلي ..!
كانت روحي تحتفل وتنشط في تعبئة النفس وتملأ وعاءها بالنفس العزيز والمدد اللذيذ...!
إنها فرحة لا تعبر عنها سوي الدموع التي تتساقط مني الآن تكاد أن تتدحرج على سطح المرايا .. تلك الدموع التي حسبها من حولي أنها دموع آلام الظهر التي تعاودني بين الحين والحين وتجعلني دوماً أتحسسن الفقرات القطنية الرابعة والخامسة وأضغط على العظام لتسكين الألم.!
وربما أسميتها أنا دموع فرحتي بالنجاة "بل هي النجاة".!
النجاة من ماذا؟!
هل هو الموت المباغت .. أم أنه تسليم الجسد الحي المملوء بالحياة وبالأنفاس إلى تابوت ضيق يشبه فى بيضاويته ودورانه تلك اللفافة البيضاء التي تحيط بجسد الميت المنقطع عنه الأنفاس؟!
...
وصلت إلى مقعد الجلوس .. المخصص للمنتظرين. جلست ومازالت أردد..
" الحمد لله على نعمة الحياة !!
"الحمد لله أن أحداً من خلق الله، إن استطاع أن يتحكم فى كل شيء .. فإنه لا يستطيع التحكم فى كمية الهواء .. ومساحات التنفس .. وسعر هواء الشهيق والزفير .."
...
الجالسون حولي على كراسي الأنتريه الفخم في العيادة الخاصة النظيفة جداً والواسعة جداً، واللامع جدرانها وأثاثها.
جميعهم ينظرون إلى .. وإلى دموعي الهادرة منهم من تقول..
- سلامتك ... سلامتك يا حاجه ..
وأخرى تقول ..
- " هشاشة العظام .. والسن له أحكام!!
راحوا ينظرون فى شفقة على وجهي الشاحب .. بينما عباراتي الداخلية تكاد تنطق ..
" ليس على والله شفقة .. ولا حالتي بالتي يرثي لها .. بل إنني سالمة .. والله كلي سلامة .. بقدر أوجاعي فانا وروحي ووعاء روحي، نفسي .. كلنا فى غاية السلامة نستشعر النجاة وبمقومات الحياة فى إرهاصاتها الأولية ..!
يا كل من حولي .. أصبح عندي الآن ألافاً من الأنفاس إنني غنية بالأنفاس المتلاحقة .. العديدة ... والجديدة .. والمديدة!
والتي لا تعد ولا تحصي ..!!
أملك الأنفاس وما أجملها ملكية تعود إلى حوزتك بعد غياب وإن كان زمن الغياب دقائق أو ثوان أو أقل من الثانية!
أستشعر أن الأنفاس تخاطبني، وأخاطبها .. وكأنني أقول لها تجمعي يا أنفاس ولملمي ما غاب عنك .. واصنعي منها صرحاً وربما بيتاً وموطناً ...!
.......
اطمأنوا على .. إنني والله فى غاية السلامة، وغداً لي مع الأنفاس تواصلاً وحكايات طويلة.
اطمأنوا على ..، لا استحق الشفقة على عبراتي وخطواتي الضعيفة، وانحناءة ظهري، ولكن استحق التهنئة!!
هنأوني بأفراح الروح التي تناثرت على الأشياء من حولي، كما تتناثر قطرات الماء على أوراق النبات فى ساعة الغيظ والظهيرة!
أفراحي بأشياء لم أكن أدرك أهميتها .. ضوء الشمس .. ضحكات الشروق المرسلة من الأفق البعيد، لتوقظ الورود النائمة، والأغصان الناعمة رياضيات الشهيق والزفير المتوالية الصباحية التي تداعب شباك غرفتي هذا الشباك وكل الشبابيك المستمدة إعمارها من الغلاف الجوى نعمة حقيقية هذا الغلاف الذي يحيط بالأرض، والذي اسبح فيه مستمدة أكسجين الحياة، كمما تسبح الأسماك فى البحار!!
نعمة حقيقية أن تكون صغيراً بهذا الحجم وحولك غلاف كبير يحميك ويوقظك، وينعشك .. يا الله!! .. ويا لنعمة الحياة..!
حيث تنظر من الغلاف الجوي إلى السقف المرفوع المملؤ بالحياة والذي تتزوج فيه السحب والرياح ليسقط المطر ويجدد حيوية الأرض!
تنظر نهاراً ... ويأسرك شكل الغروب ..!
وتنظر فجراً .. وتشرحك لحظات الشروق .. وأنت
وروحك ترددان ..
" سبحان الله ..
سبحانه الق الأصباح".
هي كلها أشياء لا تشتري .. ولا تباع .. فأي نعمة أنا فيها الآن وقيمة غالية أن تأخذ شهيقاً من هذا الغلاف الممهد لأن تستنشق دون أن تدفع رسوماً جمركية أو ضرائب أو عوايد .. أو أن تمد يدك بذل إلى الأغنياء بالأنفاس المتكبرين الجاحدين بنعمة الله.. أو الذين يكنزون الأنفاس الذهبية والفضية لتقول لهم: تصدقوا على بكمية من الهواء ... أو أقرضوني إياها .. وتمهلوا .. على في السداد".
انتهي الحوار النفسي ..!
بدأ القلق المدمر .. يا تري هل نسيتني الممرضة داخل هذا التابوت وانصرف كل الموظفين وأغلقوا الأبواب ومضوا إلى حالهم .. فهذا هو موعد انتهاء اليوم ...!
فتحت عيني، لم أر سوى السقف .. صبرت نفسي بأنه شبيه بسقف العربة التي أركبها كل صباح إلى مكان عملي .. ولكن العربة بجانبها نوافذ .. انظر منها لا ستمتع بالطريق الزراعي وما به من خضرة وأشجار .
أو انظر إلى السماء واستمتع بهذا اللون الأزرق الجميل ودرجاته الرائعة .. والسحب البيضاء التي تشكل دائما فى عيني وجوهاً عديدة لأشخاص لا أعرفهم!!
أما هذا السقف سد .. وجوانبه سد .. كله مسدود والأنفاس كادت أن تتلاشي .. بعدما انقطع الأمل أن يطرق أحد هذا الباب .. طرقت بابه سبحانه وتعالي. ليس إلا باب ربي والعين مغمصة والخاطر يستغيث بالله الحي القيوم الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام .. المؤمن المهيمن .. العزيز .. الجبار .. الذي جبر بحالي وسخر الأسباب لألتقط أنفاس الحياة أردد .. " الحمد لله على نعمة الحياة" . 

التسميات: