الجملة الثالثة
-1-
جاءت الجملة الأولي ومن بعدها الثانية محتملة بعض الشيء أن تكون صورة مشابهة لها.
لكن الجملة الثالثة، كانت يقينية وفاصلة أكيدة وقاصمة.
انهالت اسما وفعلا وحرفا على الجسد النحيل كضربات سوط غليظ مكوناتها ومفرداتها تتناولها من أخرها. إلى أولها . مظهرها مخبرها . سكناتها تحركاتها.
أنهن يتحدثن عنها أذن !!
ولا محال انها قابعة الآن تندفس وتختبئ بين أوراق المفكرة الواهية.
صباح مثل كل الصباحات الجديدة على قلب نجوى .. شاق وغريب ربما .. تتحمله .. تتحمل القلق اليومي .. أصوات العربات فى بكور اليوم .. ساعات العمل الممل، تبلد الأطفال الصغيرة وطنين الذباب الملتف حول الأفواه والأنوف.
الشيء الوحيد الذي لا تتحمله، تلك التجميعة حول المنضدة اللعينة من وقت الفسحة، حيث المربيات المعلمات بأجسامهن السمينة الملظلظة وأحاديثهن المقززة من أول ساعة لأول يوم تفتح فيه البوابة الحديدية السوداء حيث تفضى إلى طرق جبلية وعرة .. وتقرأ اليافطة المعلقة أعلاها "حضانة الطيور الصغيرة".
-2-
رغم سواد لونه. فقد لمع بضوئه وسط الحجرة المظلمة بالمصابيح المضاءة، ولما انبعثت منه الدقات وحركت أرجاء المكان الكلمات (هنا .. القاهرة).
انتفضت. هبت من مكانها. القت بالأوراق والأقلام اتجهت ناحية الصوت تراءت أمامها الصور والأخيلة، ذرفت دموعها المتحجرة. نامت مسامعها بجانبه مستندة على المائدة الخشبية.
تيقظت نجوى فى هذا المساء.
وفي كل الأمسيات !!
أمسيات القرية، تنام نجواها وتصحو مع هذا المذياع الصغير تصادفه. ترافقه. تضغط عليه برفق. ثم بهدوء اللهفة تدير المؤشر !!
يمينا ويساراً تحاول جاهدة إخفاء صوت الخربشة والرجرجة الهوائية .. إلى أن تصفر المحطة الإرسالية وتصل إلى مسامعها الكلمات الحبيبات أكثر صفاء ونقاء وتتشعب من الأحرف الثلاثة للوطن إلى أزمنة ثلاثة، حيث الصباحات الحلوة، يتجمع فيها الباعة والمتجولون. تدفئهم شمس السابعة .. ثم الظهيرة النائمة، تدفئ طريق من يعملون وتلبسهم أثواب المحبة والسكينة !!.
فى الأمسيات الطيبة، تحرس الأضواء الليلية على أبواب الدكاكين والبيوتات والمآذن الألف للبلد المحروسة!!
تصغي نجوى إلى كل كلمة، تردد بصوتها المبحوح مع صوت المذياع "المحروسة".
تسمو الروح مع هذا الشجن الخفي المتسرب من كلمات الأغنيات ترتحل كالطيور المهاجرة مع "البرامج" التي طالما حرصت على سماعها منذ الطفولة. حتى موسيقاها التي كانت تصور الوقت والأمكنة والتي تصور الآن الذكرى والأحاسيس المؤلمة.
تعرفها نجوى وتنفعل بها، وتوقظ كل النائمات فيها، وتخمش أوتارها الخفية. ثم تجسد صور الوطن الحضن وتأتي صورتها.
أستاذة، ملموم شعرها، ومختبئ وجهها وراء النظارة الطيبة، ونائم لون ثوبها البسيط المتواضع بينما صوتها يصحو وهي تلقي المحاضرات فى مادة الهندسة الوصفية !!
خطواتها الثابتة المتأنية وهي تدخل وتخرج بين المعامل والمدرجات الواسعة من الجامعة.
تغلق المذياع
تمسك بدفتر صغير، تغلفه صور الطيور والأطفال وتملأ خانات الحصص اليومية.
أفكار ذهنها تختلط. تهدئ من أمواجها المتلاطمة. يعلو صوت المناقشات الجامعية .. وتسمو الأمواج مع صوت البراعم وهي تحفظهم "أنا طفل صغير".
في الباص
وفي طريق صباحي يومي إلى المدرسة
تستند إلى الشباك. ترتب ما تبعثر من أوراق المفكرة تفتح وتغلق الحقيبة السوداء، التي بهت لونها، وانبرت القشرات الجلدية وكادت أن تنخلع يدها المعدنية وتهرب من جسد الحقيبة.
تأكد أخيراً من وجود دفتر صغير تتماوج ألوانه الزاهية لتوقظ طيورا نائمة.
الطريق طويل، والأشجار تعود إلى الوراء، بينما الجبال ثابتة على حافتيه تراجع فى ذهنها عناوين كبيرة لآخر أبحاثها العلمية تجذبها حركات طفولية للبنات والأولاد الصغار بمريولهم الأزرق وتغلق ضحكاتهم وصراخهم باب تفكيرها العميق.
المشرفة على الباص تطلب من الأطفال الهدوء .. تعد واحدة، واثنان، ثلاثة.
قالت نجوي مبتسمة:
- لقد امتلأ الباص يا ..
- شاهيناز .. اسمي شاهيناز
اقتربت نجوى تهمس فى أذن تختفي وراء طرحة مزركشة – أريد أن تخبريني بأسماء العاملات والمربيات أومأت "شاهيناز" برأسها:
- ولو...
" نحنا نخدمك بعيونا يا أبله نجوى.
عند الباب الأسود الحديدي. توقفت العربة. هبط شريط يختلط لونه ما بين الأزرق والأبيض. بعد دقائق تشكل طابور الصباح.
استقلت نجوى بركن جنبي. تتأمل العلم القماشي، تتذكر منذ كانت طفلة. تتأمل نفس الألوان. بدون النجمتين الجميلتين.
فى حجرة الدرس. أمسكت بالطباشير. تخط التاريخ الهجري والميلادي. تربت على كتف طفلة صغيرة .. تتنقل بين الأطفال بحنان. تشدو معهم الألحان.
دق جرس الفسحة
من وراء أشجار الحديقة. كان هناك مقعد وحيد مقعد غير بعيد عن مكان التجميعة اليومية.
كانت الأوراق والأقلام بيدها مجهدة ومتعبة
اختارت أن تستريح على المقعد.
جاءت الجملة الأولي ومن بعدها الثانية محتملة بعض الشيء أن تكون صورة مشابهة لها.
لكن الجملة الثالثة كانت يقينيه وفاصلة، أكيدة وقاصمة انهالت اسما وفعلاً وحرفاً على الجسد النحيل كضربات سوط غليظ. مكوناتها. مفرداتها تتناولها من أخرها إلى أولها مظهرها، مخيرها ... سكناتها .. تحركاتها. أنهن من وراء الأشجار، حول المنضدة يتحدثن عليها تمنت أن تنشق الأرض مرة واحدة وتبتلعها .. أن تحدث معجزة. زلزال، عاصفة، أي حادثة ... المهم أن تبتلعها ارض المكان.
كانت تحسد حشائش الأرض، وحتى الخفافيش الصغيرة، لأنها بدون أذان.
ضربت بقدمها اليسرى. هل تنغرز وترفس في هذه الخضيرات؟ كلا. فالحشائش واهية والأرض الآن كالكلمات مريرة وقاسية.
ارتعش بيمينها القلم. سقط على الأوراق. مسحت العرق النابت على جبينها والمتصبب كالنهر.
مرة واحدة. انفرجت أصابعها العشر. استدلت كالستار يسد الأذنين لهذا السيل الهائج من الضحكات والغمزات المنهمرة، كضربات السوط التي لا تعرف التوقف تضغط عندما يعلو صوت السوط وعندما يعلو أكثر تضغط أكثر وأكثر ... تنفلت من بين الأصابع عذابات وسخونة.
وقفت تتأهب للهروب. شعرت بتثاقل لم تعهده، تسرب شيئاً فشيئاً من الرأس إلى أخمص القدمين، جلست تسمرت على الكرسي الخشبي. ارتطمت بحافته المعدنية وبجلسته الكنزة المتدانية من الأرض.
نشرت فى جريدة عمان
20 ابريل 1997
-1-
جاءت الجملة الأولي ومن بعدها الثانية محتملة بعض الشيء أن تكون صورة مشابهة لها.
لكن الجملة الثالثة، كانت يقينية وفاصلة أكيدة وقاصمة.
انهالت اسما وفعلا وحرفا على الجسد النحيل كضربات سوط غليظ مكوناتها ومفرداتها تتناولها من أخرها. إلى أولها . مظهرها مخبرها . سكناتها تحركاتها.
أنهن يتحدثن عنها أذن !!
ولا محال انها قابعة الآن تندفس وتختبئ بين أوراق المفكرة الواهية.
صباح مثل كل الصباحات الجديدة على قلب نجوى .. شاق وغريب ربما .. تتحمله .. تتحمل القلق اليومي .. أصوات العربات فى بكور اليوم .. ساعات العمل الممل، تبلد الأطفال الصغيرة وطنين الذباب الملتف حول الأفواه والأنوف.
الشيء الوحيد الذي لا تتحمله، تلك التجميعة حول المنضدة اللعينة من وقت الفسحة، حيث المربيات المعلمات بأجسامهن السمينة الملظلظة وأحاديثهن المقززة من أول ساعة لأول يوم تفتح فيه البوابة الحديدية السوداء حيث تفضى إلى طرق جبلية وعرة .. وتقرأ اليافطة المعلقة أعلاها "حضانة الطيور الصغيرة".
-2-
رغم سواد لونه. فقد لمع بضوئه وسط الحجرة المظلمة بالمصابيح المضاءة، ولما انبعثت منه الدقات وحركت أرجاء المكان الكلمات (هنا .. القاهرة).
انتفضت. هبت من مكانها. القت بالأوراق والأقلام اتجهت ناحية الصوت تراءت أمامها الصور والأخيلة، ذرفت دموعها المتحجرة. نامت مسامعها بجانبه مستندة على المائدة الخشبية.
تيقظت نجوى فى هذا المساء.
وفي كل الأمسيات !!
أمسيات القرية، تنام نجواها وتصحو مع هذا المذياع الصغير تصادفه. ترافقه. تضغط عليه برفق. ثم بهدوء اللهفة تدير المؤشر !!
يمينا ويساراً تحاول جاهدة إخفاء صوت الخربشة والرجرجة الهوائية .. إلى أن تصفر المحطة الإرسالية وتصل إلى مسامعها الكلمات الحبيبات أكثر صفاء ونقاء وتتشعب من الأحرف الثلاثة للوطن إلى أزمنة ثلاثة، حيث الصباحات الحلوة، يتجمع فيها الباعة والمتجولون. تدفئهم شمس السابعة .. ثم الظهيرة النائمة، تدفئ طريق من يعملون وتلبسهم أثواب المحبة والسكينة !!.
فى الأمسيات الطيبة، تحرس الأضواء الليلية على أبواب الدكاكين والبيوتات والمآذن الألف للبلد المحروسة!!
تصغي نجوى إلى كل كلمة، تردد بصوتها المبحوح مع صوت المذياع "المحروسة".
تسمو الروح مع هذا الشجن الخفي المتسرب من كلمات الأغنيات ترتحل كالطيور المهاجرة مع "البرامج" التي طالما حرصت على سماعها منذ الطفولة. حتى موسيقاها التي كانت تصور الوقت والأمكنة والتي تصور الآن الذكرى والأحاسيس المؤلمة.
تعرفها نجوى وتنفعل بها، وتوقظ كل النائمات فيها، وتخمش أوتارها الخفية. ثم تجسد صور الوطن الحضن وتأتي صورتها.
أستاذة، ملموم شعرها، ومختبئ وجهها وراء النظارة الطيبة، ونائم لون ثوبها البسيط المتواضع بينما صوتها يصحو وهي تلقي المحاضرات فى مادة الهندسة الوصفية !!
خطواتها الثابتة المتأنية وهي تدخل وتخرج بين المعامل والمدرجات الواسعة من الجامعة.
تغلق المذياع
تمسك بدفتر صغير، تغلفه صور الطيور والأطفال وتملأ خانات الحصص اليومية.
أفكار ذهنها تختلط. تهدئ من أمواجها المتلاطمة. يعلو صوت المناقشات الجامعية .. وتسمو الأمواج مع صوت البراعم وهي تحفظهم "أنا طفل صغير".
في الباص
وفي طريق صباحي يومي إلى المدرسة
تستند إلى الشباك. ترتب ما تبعثر من أوراق المفكرة تفتح وتغلق الحقيبة السوداء، التي بهت لونها، وانبرت القشرات الجلدية وكادت أن تنخلع يدها المعدنية وتهرب من جسد الحقيبة.
تأكد أخيراً من وجود دفتر صغير تتماوج ألوانه الزاهية لتوقظ طيورا نائمة.
الطريق طويل، والأشجار تعود إلى الوراء، بينما الجبال ثابتة على حافتيه تراجع فى ذهنها عناوين كبيرة لآخر أبحاثها العلمية تجذبها حركات طفولية للبنات والأولاد الصغار بمريولهم الأزرق وتغلق ضحكاتهم وصراخهم باب تفكيرها العميق.
المشرفة على الباص تطلب من الأطفال الهدوء .. تعد واحدة، واثنان، ثلاثة.
قالت نجوي مبتسمة:
- لقد امتلأ الباص يا ..
- شاهيناز .. اسمي شاهيناز
اقتربت نجوى تهمس فى أذن تختفي وراء طرحة مزركشة – أريد أن تخبريني بأسماء العاملات والمربيات أومأت "شاهيناز" برأسها:
- ولو...
" نحنا نخدمك بعيونا يا أبله نجوى.
عند الباب الأسود الحديدي. توقفت العربة. هبط شريط يختلط لونه ما بين الأزرق والأبيض. بعد دقائق تشكل طابور الصباح.
استقلت نجوى بركن جنبي. تتأمل العلم القماشي، تتذكر منذ كانت طفلة. تتأمل نفس الألوان. بدون النجمتين الجميلتين.
فى حجرة الدرس. أمسكت بالطباشير. تخط التاريخ الهجري والميلادي. تربت على كتف طفلة صغيرة .. تتنقل بين الأطفال بحنان. تشدو معهم الألحان.
دق جرس الفسحة
من وراء أشجار الحديقة. كان هناك مقعد وحيد مقعد غير بعيد عن مكان التجميعة اليومية.
كانت الأوراق والأقلام بيدها مجهدة ومتعبة
اختارت أن تستريح على المقعد.
جاءت الجملة الأولي ومن بعدها الثانية محتملة بعض الشيء أن تكون صورة مشابهة لها.
لكن الجملة الثالثة كانت يقينيه وفاصلة، أكيدة وقاصمة انهالت اسما وفعلاً وحرفاً على الجسد النحيل كضربات سوط غليظ. مكوناتها. مفرداتها تتناولها من أخرها إلى أولها مظهرها، مخيرها ... سكناتها .. تحركاتها. أنهن من وراء الأشجار، حول المنضدة يتحدثن عليها تمنت أن تنشق الأرض مرة واحدة وتبتلعها .. أن تحدث معجزة. زلزال، عاصفة، أي حادثة ... المهم أن تبتلعها ارض المكان.
كانت تحسد حشائش الأرض، وحتى الخفافيش الصغيرة، لأنها بدون أذان.
ضربت بقدمها اليسرى. هل تنغرز وترفس في هذه الخضيرات؟ كلا. فالحشائش واهية والأرض الآن كالكلمات مريرة وقاسية.
ارتعش بيمينها القلم. سقط على الأوراق. مسحت العرق النابت على جبينها والمتصبب كالنهر.
مرة واحدة. انفرجت أصابعها العشر. استدلت كالستار يسد الأذنين لهذا السيل الهائج من الضحكات والغمزات المنهمرة، كضربات السوط التي لا تعرف التوقف تضغط عندما يعلو صوت السوط وعندما يعلو أكثر تضغط أكثر وأكثر ... تنفلت من بين الأصابع عذابات وسخونة.
وقفت تتأهب للهروب. شعرت بتثاقل لم تعهده، تسرب شيئاً فشيئاً من الرأس إلى أخمص القدمين، جلست تسمرت على الكرسي الخشبي. ارتطمت بحافته المعدنية وبجلسته الكنزة المتدانية من الأرض.
نشرت فى جريدة عمان
20 ابريل 1997