أنياب الخوف

4:03 م / /

أنيـــــــاب الخــــــوف

أدرك الحيوان الصامت أن دوره جاء، لابد أن ينطق .. لابد أن ينبح "... عيناه كانتا تلاحقان كسرا من الأرغفة القديمة، أخضر لو نها ولحماً خرجت رائحته، بجانب الجدار...
وسيره كان موازياً للفتاتين .. هادئاً كان يسير، شارداً كان يسير. أدرك فجأة أنه لابد من التوقف، لابد أن يكسر التوازي ويتعامد فى المسير.
الرائحة تجذبه، والخطوة للأرجل الأربعة توقفه والخطوتان لأربعة أرجل تحركه، لحظة شاجرت لحظة نادت لحظة، لحظات من التوقف أربعة فقط أربعة. أندفع بعد اللحظة الأخيرة إلى التي تسير بجانب الخائفة.
* * *
الخائفة بجوار صديقتها في الحارة الضيقة، تسيران، والوقت الذي تغطس فيه شمس الأصيل، والبلدة ما بين نسيم القرية واستقبال ليل المدينة، حالمة شجية، عيونها نائمة، وأغانيها على شفاه الباعة والمتجولين نائمة، يوقظها صوت أقدام الخيول، صلصلة بطيئة لعربات الحنطور، والأرض مازالت بين الحالة الترابية والحالة الطميية، أديمها طري لم ينشف عليه حديث المطر الساقط والذي بدأ يقل تدريجيا، وينتهي تماماً ليبدأ صوت تقطير المياه من البلاعات والمواسير الصدئة.
عطَّر المطر الشارع العمومي برائحة فيها من الخبز ومن البكارة، لم يصل إلى الفتاتين شيء من تلك الرائحة حيث الحارة الضيقة لم تزل تغلب عليها رائحة القمامة.
الخائفة كانت ترتعد من البرودة، ملابسها خفيفة، لا تماثل ما ترتديه صديقتها، تحاول تدفئة أصابعها بنفسها، فتفشل، تصطك أسنانها، ينبعث صوت متقطع. يزداد الصوت كلما يمر الكلب الأسود بجوارها، تتدلي من فمه قطعة لحم نتنة الرائحة. ارتعشت. خفق قلبها. تمنت لو تجمع حولها عددٌ من البشر، تندس بينهم، فقد تفرقت الزميلات جميعهن، بعد انتهاء الدرس الخصوصي .. كل إلى منزله، ولم يتبق سوي صديقتها .... والتي تسير بجوارها، هادئة فى مشيتها تبتسم. تحرك حقيبتها فى الهواء. تتمايل. وتنظر إلى الخائفة وبلهجة ساخرة .........
خايفة من حتة كلب !!
تلبدت السحب. مرة أخرى. ساد الغيوم، مرة أخرى بدأت السماء تمطر .. بغزارة تمطر والدموع تمطر من عين الخائفة .. أرادت أن تسرع فى خطوتها وتشعر بالعجز. وضعت يمينها على ركبتها تحاول أن تنقلها فى بطء، وعينها تراقب الحيوان الذي يسير موازيا لها.
كلما يبتعد، تهدأ قليلاً. كلما يقترب ترتعد أكثر. تختبئ فى ثوب صديقتها .. صديقتها مازالت تهتز فى مشيتها، غير عابئة بدقات كعب حذائها المدبب المرتفع ....
- يا بنتي ولا يهمك.
تنظر الخائفة إلى صديقتها. تتمني أن يصلها ذرة هدوء وثبات، فهي صديقة الطفولة تلمس فيها دائماً ثباتها وصلابتها وتحسدها أحيانا ... تحاول أن تقلدها أحياناً، وتفشل .. الفشل أكيد هذه اللحظة.، حيث لا ثبات ولا هدوء والمصير المحتوم بجوارها يقترب، ويبتعد. يقبل، ويدبر. وفي كل خطوة يولد الأمل ويموت، ومع كل فلتة، ينزرع الخوف، وتقترب النهاية. الرهبة بداخلها تثمر رهبات كثيرة، تتبعثر إلى أنحاء الدنيا .. والدنيا تنكمش وتتضاءل وتنتهى عنده هذه البقعة من الأرض، الأرض التي تثاقلت عندها خطاها، بدأ المطر يعاندها ....
...........

هطل المطر بكثرة ... !!
الخائفة مازالت خائفة بكثرة !! .. دون أن تشعر، سقط منها قلم الرصاص، فلم تقو أن تعود إلى الوراء خطوة واحدة .. وصديقتها بجوارها، مازالت تبتسم. تضحك. ينبعث من ضحكتها رنين، .. أرسل الكلب على أثرها نظرة إلى الفتاتين، ظل يتتبعهما خطوة بخطوة .. يتابع حوارهما الصامت. وحديث الرعشات، وبعدها يتابع حديث الضحكات الرنانة ..، شعر الحيوان من الرعشات بخوف البنت ، ورقص ذيله .. وشعر من الضحكات بسخرية صديقتها ..، وبدأ يشك فى صدق الرعشات ويشك فى السعادة التي أحس بها أولا ... أراد أن يتأكد. فقط يتأكد من صحة خوفها .. فجأة أدرك أنه لابد أن يكسر التوازي ويتعامد فى المسير. اتجه ناحية الخائفة فى اللحظة الأولي. لحظة شاجرت لحظة، لحظة نادت لحظة، لحظات من التوقف أربع، فقط أربع. اندفع بعد اللحظة الأخيرة إلى صديقتها. مازال رنين ضحكتها فى أذنيه.
يتمني أن ينهش .. يتمني أن يعض ، ولا يزال هناك فى وسط الطريق يصر على أسنانه ، فى انتظار أن ينشب أنيابه فى قطعة من اللحم .

التسميات: