الخروج عن الهارموني
كان أول طيف يعود معي ويلازمني من محطة أتوبيس شرق الدلتا إلى مطار القاهرة الدولي
هو طيفها .. "طيف صافيناز"
الآن فقط من حقي أن أسند ظهري المتعب إلى المقعد الذي خصصته لي المضيفة الأنيقة، وأن استمع إلي الصوت القادم من بعيد
".. أهلا ومرحبا بكم على متن الطائرة..
"سبحان الذي سخر لنا هذا وما ...
أكملت آنا الآية القرآنية "وما كنا له بمقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون"
ورحت أردد دعاء السفر بعد رحلة من اللهاث الطويل منذ صباح هذا اليوم، وتنقلي من موقع إلى آخر لإنهاء الأختام الخاصة بأوراق السفر. لعلني الآن أشرع في ابتسامة صامتة على وجهي المندي بحبات العرق وأتساءل "كيف اقتحمت هذه الصافينازه الجميلة خيالي وسكنت فيه؟؟
بحثت عن ورقة بيضاء وقلم، .. لم أجد !!
طلبت من ابنتي الكبرى الملتصقة بي فى المقعد المجاور أن تعيرني قلمها. قلبت الأشياء القديمة المبعثرة فى حقيبتي السوداء. لم أجد سوي بعض الوريقات القديمة المطبقة.
استخرجت أحداها، فردتها، قلبتها على الجهة البيضاء لم أكترث بما هو مكتوب فى الجهة الأخرى، تظهر لي أسطر قليلة عمودية وبعض النمنمات الكتابية، على الأرجح أنها ورقة حكومية وعلى الأكثر أنها من مصلحة البريد .. ليس هذا الشيء يهمني الان..
ما يهمني أن أكتب !!
أمسكت بقلم ابنتي الأخضر وبدأت فى الكتابة الوجدانية، ثم الكتابة الورقية. هل أنني بدأت اكتب؟ !!
نعم ...
نويت الكتابة .. وحمدت الله على هذه النعمة. ورددت" الله اكبر" ثلاثا حين صدر صوت زلزالي ينبئ بصعود الطائرة. ارتجف أبني الصغير وتشبث بي. دفعته عني لأحكم توثيق حزام الأمان على بطنه الضعيفة. علقت بذهني كلمات فى كياني .
"سبحان الله ثلاث لأرددها حين الهبوط" ثم دعائي لواحدة من أغلي صديقاتي وأخواتي فى الله كانت قد أوصتني بالدعاء بأن يفرج الله كربها."
وما بين الصعود والأستواء الجوي كانت الكلمات تتهادر من علياء الجبال الموحشة على صدري وتسقط رطبة تثلج حرارة أوقاتي التي تستبق الحسرات، وكانت الكلمات تسقط قوية وشادية لتقوي انكسار العصافير وتنطق صمتها فى قلبي. تدفقت الأنهار الحسية والشجية من بين أناملي وأنا على ارتفاع كيلومترات من سطح الأرض. ولو أنني كنت أعلم أن الكتابة فى الجو لها هذا المذاق الحلو لكنت كتبت خلال سنوات سفري أربعة وعشرين قصة جوية!!
وتذوقت بدلا من المرارة الحلاوة مرات ومرات
مرت ساعات معدودة منذ رؤيتي لها وقت الظهيرة بداخل هذا الأتوبيس المكيف والذي يفضله أولادي بدلاً من التاكسي لأنه مزود بشاشات تليفزيونية تعرض الأفلام والمسرحيات التي تقطع حد الملل وتقصر طول المسافة.
كنت أجلس في أخر الصف وعن يميني أولادي وعن يساري أخي النديم لي والذي تسعدني دوماً صحبته ورفقته وقد حمل معه من الشباك خمسة تذاكر بعددنا!!
بدأ الركاب يتوافدون راكباً وراء الآخر .. كادت المقاعد تمتلئ بهم. ثم بدأ اهتمامهم باستبدال الأماكن حسب الأرقام المكتوبة باللغة الإنجليزية خلف كل مقعد.
وقعت عيني عليها وهي واقفة، بعد أن أوقفها صاحب المقعد الذي جلست عليه بدون اذن، كانت تقف شبه منثنية متشبثة بالقعود، تحرك رأسها فى حركات دائرية لتنتفض خصلات شعرها المجعد والذي تنوء أطرافه وتئن وكأنها مجزورة بموس قديم صدئ!!
تجول الكمساري الذي يراجع التذاكر، توقف عندها. أمرها بالنزول حين لم يجد لديها تذكرة. تسمرت في موقعها وراحت ترمي بنظراتها المتمردة النمرية ثم سددت نظرة سهمية شملت أول المكان وآخره. أشفقت أنا عليها. قررت على الفور أن أخرج بقايا النقود المصرية من جيبي لأشتري لها تذكرة، لولا أنني تأملت ملابسها ولاحظت هذا "التايير القرمزي" الثمين الذي ترتديه وكنت رأيت مثله منذ أيام معروضاً بأكبر محلات الملابس الجاهزة وكنت أتمني أن أقتنيه لي ولكن ..!! مرت ثوان ودقائق ومازالت الصافينازه تتحدث وكانها عالمة ذرة معرفية أو رئيسة لقطاعات شئون الحياة.
لم تكف عن الكلام ثانية واحدة، ولم تغلق فمها أقل من الثانية.
راح كل مستمع لها يزداد إنصاتاً نحو الكلام الذي يصف دخيلتها، ورحت أنا الأخرى أنصت إلى حديثها المتشابك والممزوج بتعبيرات تلقائية وفطرية منها. لم أكن أعرف أسمها،
- ولم يناديها أحد به – ولم أكن من قبل رأيتها وأعتقد أنني لن أقوي على رؤيتها وتأملها وسماع حديثها مرة ثانية، فمثل هذه الصافينازه مسموح للإنسان أن يراها مرة واحدة فى حياته وغير مسموح له برؤيتها مرة ثانية.
هذه الصافينازه النافرة من هارموني النفوس الفاسدة .. كانت أشبه بنغمة نشاز خرجت عن هارموني قطعة موسيقية من المؤكد أن روحها الطاهرة تلتقي كل ليلة مع أرواح المؤمنين تحت عرش الرحمن ومن المؤكد أنها تسجد لله مع الطاهرين منهم كل ليلة وتزور المتصدقات والخاشعات والمستغفرات بالأسحار والمتحاملات لمتاعب أزواجهن والصابرات لأجل أطفالهن والخارجات عن هارموني الحياة الدنيا إلى الحياة فى الدار الآخرة .. هذه الصافينازه لم أكن أعرف أسمها ولكني اخترته لها مثلما اخترت أسماء أطفالي وهم القطع الصغيرة التي فصلت عنى ذات يوم !! ولكن لماذا أخترت صافيناز وليس أسماً آخر .. ربما فى طفولتها كانت أمها تناديها صافي أو أن صديقاتها كن يسمونها صافية وكلها مشتقات من صافيناز وهي بحق صافية !! صافية بحق ليست فى بشرتها البرونزية أية تعكرات، عيناها كالمساء الصافية فى صبيحة يوم هادئ وهانئ .. وأنفها الخنسائي مكتوب على جانبيه حكايات لكثير من الشرفاء والمجاهدين وصناع التاريخ. "اللي له واسطة .. يأكل بسطه، واللى مالوش واسطة يقعد ع البسطة!! "
تغنت صافية بهذه الكلمات أكثر من مرة وهي تؤرجح قدميها وساقيها الناشفتين النحيلتين بعد أن أقعدها السائق على مقعده بجواره، بدأ الركاب يتأملونها راكباً تلو الأخر هذا القارئ المثقف، ألقي بجريدته ناظراً إياها.
وهذان الشابان اللذان يتجاذبان أطراف الحديث عن الانترنيت 2 والواقع الافتراضي وأن الإنسان يمكن أن يلبس خوذة وقفازاً بالكهرباء ويلمس شاشة الكمبيوتر ليجد نفسه وراء الشاشة يشارك مسرح الأحداث..!!
ومن يدري ربما يصبح هنا فى المستقبل انترنيت 3، 4.. وبكل الأرقام وعن السيارة التي تسير بدون سائق .. هذان الشابان لم يجذبهما حديثهما الشيق وراحا يصغيان إلى حديث الصافية ...!!
وحتي هذه الأم الحنون التي تجلس بالمقعد المجاور لي.. كفت عن مداعبة طفلتها الصغيرة لتتابع كلماتها وهي تعدد
" اللى تعمله يافقي، في البنية تلتقي "
وفجأة !!
أرتفع صوت تعديدها. امتزج بالصراخ والعويل وحركات شبه هيستيرية نظرت إلى أخي الطبيب. همست فى أذنه حتى لا يستيقظ طفلي النائم على صدري سألته "هل تعاني السيدة من مرض نفسي" هستيريا مثلاً أو شوزوفرينيا أو بارانويا ؟!!
ابتسم فى هدوء وأعرض برأسه. فهمت من صمته هذا أنها غير مريضة البتة وغاية ما في الأمر أن حيلتها كانت ضعيفة مثل القشة وربما كانت هناك ضغوطاً أقوى من إمكانياتها وقدراتها.
قال الراكب الثائر "أخرجوا هذه المجنونة من الأتوبيس وإلا..."
وقالت الراكبة الثرثارة "أحضروا لها الشرطة حتى ..."
* * *
مازال طيفك يمر أمامي يا أيتها الصافية الجميلة ويأسرني مثلما تأسرني زهرة البنفسج بحزنها وبهجتها. ومازال صوتك يطغي على حديث نفسي مثلما تفرض أغنية ما نفسها على بالي طول النهار وأكون سمعتها فى الصباح الباكر بإذاعة الشرق الأوسط أو بإذاعة الشباب والرياضة مثلاً. تنفست بعمق حيث ركاب الطائرة الآن منشغلون حولي بتناول العشاء. اسقطوا المناضد الملتصقة خلف المقاعد، وراحوا يطلبون المشروبات. دون حركة ونشاط من طاقم الطائرة غدواً ورواحاً. كانت المضيفة توزع ابتساماتها على الركاب مع أبريق الشاي المتنقل. كان الماء يتساقط معانقاً الأكواب البلاستيكية بكل هذا الحنو والهدوء، تماماً مثلما حدثها ضابط الشرطة في حنو وهدوء بعد أن صرخت فى وجهه.
قائلة: "ابعدوا عني يا ناس ..."
تودد الضابط متوسلاً إليها فى ترفق ...
"يالله معاى يا...
ولكنها كانت قد نهرته بشدة بيد خالية من أية مصوغات انا.."
* * *
أنهيت طعام العشاء مع أولادي. مسحت بالمنديل الورقي بقايا الأكل حول فم الصغير !!
بدأ طيف صافيناز يمحي من مخيلتي. أوشكت أن أمسحه نهائياً لولا مشهداً أخيراً مروعاً أوشكت أن أمسح بعض الحنان مع المنديل الذي أمسح به أصابع صغيرة لطفلي ولولا أن ذرات الأمومة في صدري يتوالى أنشاطرها واتحادها دوماً لشرب الطفل مع العصير الذي يتناوله الآن المخاوف بدلاً من الأمان والغفلة بدلاً من الاهتمام!!
جالت بخاطري الأشياء التي يمكن أن تغير من كيمياء الحب وكيمياء العطاء وتخمد سيمفونية الرباط الجميل بين البرتونات والإلكترونيات الدوارة حول النوة داخل ذرات الأمومة الخالدة. وهزني الخاطر كما اهتزت وارتجفت الصافية حين جاء الحشد الكبير من رجال الشرطة ليحملونها بعد أن نزل كل الركاب ووقفوا على أسفلت الطريق، حيث شمس الظهيرة لم تزل تلهب أفكارهم ليشهدوا لها منظرا أخيراً وهي تصرخ وتعافر وهم يكتفونها ويسكتونها ويزجون بها فى تلك العربة الصغيرة ...
وتقطعت صورتها من خيالي مع تقطعات وارتجافات الطائرة حين الهبوط. تيقظ صغيري الذي أخلد إلى النوم وجاء الصوت من الميكروفون "حمد الله على سلامتكم.
دقائق قليلة وتهبط الطائرة إلى ميناء السيب الدولي درجة الحرارة الآن فى مسقط 52 درجة مئوية"
قمت. حملت الحقائب. لملمت الأشياء المبعثرة. طويت الورقة البيضاء .. أراها الآن وقد اكتظت بالكتابة، ولم يعد هناك ثمة مساحة صغيرة للكتابة ...
كان أول طيف يعود معي ويلازمني من محطة أتوبيس شرق الدلتا إلى مطار القاهرة الدولي
هو طيفها .. "طيف صافيناز"
الآن فقط من حقي أن أسند ظهري المتعب إلى المقعد الذي خصصته لي المضيفة الأنيقة، وأن استمع إلي الصوت القادم من بعيد
".. أهلا ومرحبا بكم على متن الطائرة..
"سبحان الذي سخر لنا هذا وما ...
أكملت آنا الآية القرآنية "وما كنا له بمقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون"
ورحت أردد دعاء السفر بعد رحلة من اللهاث الطويل منذ صباح هذا اليوم، وتنقلي من موقع إلى آخر لإنهاء الأختام الخاصة بأوراق السفر. لعلني الآن أشرع في ابتسامة صامتة على وجهي المندي بحبات العرق وأتساءل "كيف اقتحمت هذه الصافينازه الجميلة خيالي وسكنت فيه؟؟
بحثت عن ورقة بيضاء وقلم، .. لم أجد !!
طلبت من ابنتي الكبرى الملتصقة بي فى المقعد المجاور أن تعيرني قلمها. قلبت الأشياء القديمة المبعثرة فى حقيبتي السوداء. لم أجد سوي بعض الوريقات القديمة المطبقة.
استخرجت أحداها، فردتها، قلبتها على الجهة البيضاء لم أكترث بما هو مكتوب فى الجهة الأخرى، تظهر لي أسطر قليلة عمودية وبعض النمنمات الكتابية، على الأرجح أنها ورقة حكومية وعلى الأكثر أنها من مصلحة البريد .. ليس هذا الشيء يهمني الان..
ما يهمني أن أكتب !!
أمسكت بقلم ابنتي الأخضر وبدأت فى الكتابة الوجدانية، ثم الكتابة الورقية. هل أنني بدأت اكتب؟ !!
نعم ...
نويت الكتابة .. وحمدت الله على هذه النعمة. ورددت" الله اكبر" ثلاثا حين صدر صوت زلزالي ينبئ بصعود الطائرة. ارتجف أبني الصغير وتشبث بي. دفعته عني لأحكم توثيق حزام الأمان على بطنه الضعيفة. علقت بذهني كلمات فى كياني .
"سبحان الله ثلاث لأرددها حين الهبوط" ثم دعائي لواحدة من أغلي صديقاتي وأخواتي فى الله كانت قد أوصتني بالدعاء بأن يفرج الله كربها."
وما بين الصعود والأستواء الجوي كانت الكلمات تتهادر من علياء الجبال الموحشة على صدري وتسقط رطبة تثلج حرارة أوقاتي التي تستبق الحسرات، وكانت الكلمات تسقط قوية وشادية لتقوي انكسار العصافير وتنطق صمتها فى قلبي. تدفقت الأنهار الحسية والشجية من بين أناملي وأنا على ارتفاع كيلومترات من سطح الأرض. ولو أنني كنت أعلم أن الكتابة فى الجو لها هذا المذاق الحلو لكنت كتبت خلال سنوات سفري أربعة وعشرين قصة جوية!!
وتذوقت بدلا من المرارة الحلاوة مرات ومرات
مرت ساعات معدودة منذ رؤيتي لها وقت الظهيرة بداخل هذا الأتوبيس المكيف والذي يفضله أولادي بدلاً من التاكسي لأنه مزود بشاشات تليفزيونية تعرض الأفلام والمسرحيات التي تقطع حد الملل وتقصر طول المسافة.
كنت أجلس في أخر الصف وعن يميني أولادي وعن يساري أخي النديم لي والذي تسعدني دوماً صحبته ورفقته وقد حمل معه من الشباك خمسة تذاكر بعددنا!!
بدأ الركاب يتوافدون راكباً وراء الآخر .. كادت المقاعد تمتلئ بهم. ثم بدأ اهتمامهم باستبدال الأماكن حسب الأرقام المكتوبة باللغة الإنجليزية خلف كل مقعد.
وقعت عيني عليها وهي واقفة، بعد أن أوقفها صاحب المقعد الذي جلست عليه بدون اذن، كانت تقف شبه منثنية متشبثة بالقعود، تحرك رأسها فى حركات دائرية لتنتفض خصلات شعرها المجعد والذي تنوء أطرافه وتئن وكأنها مجزورة بموس قديم صدئ!!
تجول الكمساري الذي يراجع التذاكر، توقف عندها. أمرها بالنزول حين لم يجد لديها تذكرة. تسمرت في موقعها وراحت ترمي بنظراتها المتمردة النمرية ثم سددت نظرة سهمية شملت أول المكان وآخره. أشفقت أنا عليها. قررت على الفور أن أخرج بقايا النقود المصرية من جيبي لأشتري لها تذكرة، لولا أنني تأملت ملابسها ولاحظت هذا "التايير القرمزي" الثمين الذي ترتديه وكنت رأيت مثله منذ أيام معروضاً بأكبر محلات الملابس الجاهزة وكنت أتمني أن أقتنيه لي ولكن ..!! مرت ثوان ودقائق ومازالت الصافينازه تتحدث وكانها عالمة ذرة معرفية أو رئيسة لقطاعات شئون الحياة.
لم تكف عن الكلام ثانية واحدة، ولم تغلق فمها أقل من الثانية.
راح كل مستمع لها يزداد إنصاتاً نحو الكلام الذي يصف دخيلتها، ورحت أنا الأخرى أنصت إلى حديثها المتشابك والممزوج بتعبيرات تلقائية وفطرية منها. لم أكن أعرف أسمها،
- ولم يناديها أحد به – ولم أكن من قبل رأيتها وأعتقد أنني لن أقوي على رؤيتها وتأملها وسماع حديثها مرة ثانية، فمثل هذه الصافينازه مسموح للإنسان أن يراها مرة واحدة فى حياته وغير مسموح له برؤيتها مرة ثانية.
هذه الصافينازه النافرة من هارموني النفوس الفاسدة .. كانت أشبه بنغمة نشاز خرجت عن هارموني قطعة موسيقية من المؤكد أن روحها الطاهرة تلتقي كل ليلة مع أرواح المؤمنين تحت عرش الرحمن ومن المؤكد أنها تسجد لله مع الطاهرين منهم كل ليلة وتزور المتصدقات والخاشعات والمستغفرات بالأسحار والمتحاملات لمتاعب أزواجهن والصابرات لأجل أطفالهن والخارجات عن هارموني الحياة الدنيا إلى الحياة فى الدار الآخرة .. هذه الصافينازه لم أكن أعرف أسمها ولكني اخترته لها مثلما اخترت أسماء أطفالي وهم القطع الصغيرة التي فصلت عنى ذات يوم !! ولكن لماذا أخترت صافيناز وليس أسماً آخر .. ربما فى طفولتها كانت أمها تناديها صافي أو أن صديقاتها كن يسمونها صافية وكلها مشتقات من صافيناز وهي بحق صافية !! صافية بحق ليست فى بشرتها البرونزية أية تعكرات، عيناها كالمساء الصافية فى صبيحة يوم هادئ وهانئ .. وأنفها الخنسائي مكتوب على جانبيه حكايات لكثير من الشرفاء والمجاهدين وصناع التاريخ. "اللي له واسطة .. يأكل بسطه، واللى مالوش واسطة يقعد ع البسطة!! "
تغنت صافية بهذه الكلمات أكثر من مرة وهي تؤرجح قدميها وساقيها الناشفتين النحيلتين بعد أن أقعدها السائق على مقعده بجواره، بدأ الركاب يتأملونها راكباً تلو الأخر هذا القارئ المثقف، ألقي بجريدته ناظراً إياها.
وهذان الشابان اللذان يتجاذبان أطراف الحديث عن الانترنيت 2 والواقع الافتراضي وأن الإنسان يمكن أن يلبس خوذة وقفازاً بالكهرباء ويلمس شاشة الكمبيوتر ليجد نفسه وراء الشاشة يشارك مسرح الأحداث..!!
ومن يدري ربما يصبح هنا فى المستقبل انترنيت 3، 4.. وبكل الأرقام وعن السيارة التي تسير بدون سائق .. هذان الشابان لم يجذبهما حديثهما الشيق وراحا يصغيان إلى حديث الصافية ...!!
وحتي هذه الأم الحنون التي تجلس بالمقعد المجاور لي.. كفت عن مداعبة طفلتها الصغيرة لتتابع كلماتها وهي تعدد
" اللى تعمله يافقي، في البنية تلتقي "
وفجأة !!
أرتفع صوت تعديدها. امتزج بالصراخ والعويل وحركات شبه هيستيرية نظرت إلى أخي الطبيب. همست فى أذنه حتى لا يستيقظ طفلي النائم على صدري سألته "هل تعاني السيدة من مرض نفسي" هستيريا مثلاً أو شوزوفرينيا أو بارانويا ؟!!
ابتسم فى هدوء وأعرض برأسه. فهمت من صمته هذا أنها غير مريضة البتة وغاية ما في الأمر أن حيلتها كانت ضعيفة مثل القشة وربما كانت هناك ضغوطاً أقوى من إمكانياتها وقدراتها.
قال الراكب الثائر "أخرجوا هذه المجنونة من الأتوبيس وإلا..."
وقالت الراكبة الثرثارة "أحضروا لها الشرطة حتى ..."
* * *
مازال طيفك يمر أمامي يا أيتها الصافية الجميلة ويأسرني مثلما تأسرني زهرة البنفسج بحزنها وبهجتها. ومازال صوتك يطغي على حديث نفسي مثلما تفرض أغنية ما نفسها على بالي طول النهار وأكون سمعتها فى الصباح الباكر بإذاعة الشرق الأوسط أو بإذاعة الشباب والرياضة مثلاً. تنفست بعمق حيث ركاب الطائرة الآن منشغلون حولي بتناول العشاء. اسقطوا المناضد الملتصقة خلف المقاعد، وراحوا يطلبون المشروبات. دون حركة ونشاط من طاقم الطائرة غدواً ورواحاً. كانت المضيفة توزع ابتساماتها على الركاب مع أبريق الشاي المتنقل. كان الماء يتساقط معانقاً الأكواب البلاستيكية بكل هذا الحنو والهدوء، تماماً مثلما حدثها ضابط الشرطة في حنو وهدوء بعد أن صرخت فى وجهه.
قائلة: "ابعدوا عني يا ناس ..."
تودد الضابط متوسلاً إليها فى ترفق ...
"يالله معاى يا...
ولكنها كانت قد نهرته بشدة بيد خالية من أية مصوغات انا.."
* * *
أنهيت طعام العشاء مع أولادي. مسحت بالمنديل الورقي بقايا الأكل حول فم الصغير !!
بدأ طيف صافيناز يمحي من مخيلتي. أوشكت أن أمسحه نهائياً لولا مشهداً أخيراً مروعاً أوشكت أن أمسح بعض الحنان مع المنديل الذي أمسح به أصابع صغيرة لطفلي ولولا أن ذرات الأمومة في صدري يتوالى أنشاطرها واتحادها دوماً لشرب الطفل مع العصير الذي يتناوله الآن المخاوف بدلاً من الأمان والغفلة بدلاً من الاهتمام!!
جالت بخاطري الأشياء التي يمكن أن تغير من كيمياء الحب وكيمياء العطاء وتخمد سيمفونية الرباط الجميل بين البرتونات والإلكترونيات الدوارة حول النوة داخل ذرات الأمومة الخالدة. وهزني الخاطر كما اهتزت وارتجفت الصافية حين جاء الحشد الكبير من رجال الشرطة ليحملونها بعد أن نزل كل الركاب ووقفوا على أسفلت الطريق، حيث شمس الظهيرة لم تزل تلهب أفكارهم ليشهدوا لها منظرا أخيراً وهي تصرخ وتعافر وهم يكتفونها ويسكتونها ويزجون بها فى تلك العربة الصغيرة ...
وتقطعت صورتها من خيالي مع تقطعات وارتجافات الطائرة حين الهبوط. تيقظ صغيري الذي أخلد إلى النوم وجاء الصوت من الميكروفون "حمد الله على سلامتكم.
دقائق قليلة وتهبط الطائرة إلى ميناء السيب الدولي درجة الحرارة الآن فى مسقط 52 درجة مئوية"
قمت. حملت الحقائب. لملمت الأشياء المبعثرة. طويت الورقة البيضاء .. أراها الآن وقد اكتظت بالكتابة، ولم يعد هناك ثمة مساحة صغيرة للكتابة ...