الجريدة المشربية

4:14 م / /

الجريدة المشربية

عيناها مستيقظة بارقة.
العناوين على الجريدة نائمة، غير ناطقة.
الجريدة مشربية، والعينان تتلصصان
وراءها على هذا البعيد.
هل يكون هو .. أم شبيها له
والاقتراح المؤكد. نترك المكان.
* * *
هل يكون هو؟ ... مستحيل يكون هو.. لقد كان، فى نفس اللحظة هناك...، فى حجرته هناك..، تطل عيدان القش والحطب من شباكها.. هناك يجلس. قامته الطويلة محنية، منكبا على الأوراق القديمة السميكة، بينما الأوراق الجديدة الرقيقة فى يدها، هنا !! تحملها وقد انتهي المهرجان الأدبي.
فى البدء كانوا صحبة من الزملاء، وكانت معهم جموع التفت حول المقاعد، وشيئاً فشيئاً انصرف، وتبقي زميل واحد .. شيئاً فشيئاً هدأ الضجيج فى النادي، وبدأ السكون يتسلل وينشر رائحته على كل الأركان، رائحة جعلت النقاش الحاد تحول إلى همس، والحوار يتحول إلى وشوشة، والكلام عن الإبداع يتحول إلى أبداع ... والسؤال الواحد يتعدد إلى أسئلة .. تراه هو .. هل يكون هو؟ ..لا، نعم، .. هو .. القامة المحنية، نفس لون الجاكيت الرمادي ... نفس لون الكوفية .. خطوته .. آه لو يخطو .. خطوة واحدة تجعلها تهدأ وتستقر نظراتها .. فعيناها مازالت تروح وتجئ إلى الجانب الأيسر واقفاً هو لم يزل، .. وقلبها كاد أن يترقف .. تأمره يدق. يدق. تزداد ضرباته. تسكتها فيصمت، ويعود السكون وتنسحق الكلمات إلى لفتات. والسؤال يتقطر.
- همومك : مصرية و ..
- همومك : الانسان.
- والنقاش يدور.
والهموم الأولي لها تتضاءل أمام الهموم الثانية عنده.. همومها هي، ملامح ريفية تغزو العاصمة، جناحان يطيران من هواء الشجر الريفي إلى هواء الفاترينات، قلب تمرد على الصفحات ولاذ بالسفر.!
تحركت على المقعد. قاربت أجزاء البالطو الهامدة. اشتملت به كتفها النحيل شابكت خمس أصابع، وبسرعة، فكت التشابك، عادت تتأمل. ارتابه شيء دفين:-
ما بك ؟!
رفعت رأسها إلى أعلى. جذبت نفسا عميقاً .. آه..
فى داخلي كيان جديد. هل يولد هذه اللحظة؟
القي بيمناه جريدته على المنضدة. ابتسم..
"حسن" .. سوف تقرأ لك ابداعا جديدا .. بعمق تنهدت..
برفق تناولت الجريدة. بدأت تقلب أوراقها. شعرت بأنه يخطو، فى لحظة انتقل بصرها، تتأكد أنه هو .. هل يكون هو أم شبيها له؟!!

من بين السطور فى الجريدة تخطف نظرات إلى الركن الأيسر من النادي .. كان هو آخذ فى التحرك والسير ناحية الباب .. نفس خطواته الهادئة المثقلة بهموم التأمل. انتفضت راحت بأصابع مرتعشة تحتسي فنجان القهوة الساخن وضعت الفنجان. ارتعش الطبق. انسكب جزءاً على الأرض، رفعت الجريدة إلى رأسها. حركتها بيسراها صعوداً وهبوطاً. خفق قلبها فترفعها.

يهدأ قلبها، فتخفضها، تراه يقدم ناحيتها .. أم يبتعد عنها .. آه .. ليته يفعل وبسرعة يخرج نهائياً من النادي أو يقترب منها ويحدث ما حدث .. ومهما حدث فهي زميله، يجاورها زميل، والكلمات تسافر من عقله إلى عقلها..
الأجمل أن تبحث عن مكان هادئ !!

تعجب لها، راح يحتسى قهوته، يراقب يدها، .. السيجار بين الأصابع لم يكتمل بعد أطفأته رعشة ثلاث أصابع .. مسامعه تألمت على صوت نبش أظافرها..
قبل ان يسألها تمتم وتعلل..

- " فى المرحلة الجنينة لا بداعي دائماً أفضل شيئاً عند رأسي"
ضاحكا لها..
- فلنكمل النقاش في ... و ...
قاطعته فى حماس ..
- " حقا .. المجتمع .. الوعي .. الـ ...."
بدأت السخونة تخرج الكلمات معها حارة وخافتة ..، واللون الرمادي يغلبه السواد ويزيد السخونة ..، والالتفات المستمر إلى الركن الأيسر يزيدها خنقاً .. تراه هو .. أم شبيها له .. شيئاً واحدا فقط كان يبرد الكلمات ويخرجها من خنقتها .. الجريدة اذ توارب بها النافذة عينيها .. الجريدة المثقبة بارتعاشات الأصابع .. الجريدة مشربية والعينان تتلصصان والاقتراح المفاجئ المؤكد يبدأ..
لنترك المكان
فلنترك المكان
 
خارج المكان.
كانت اسراءات الروح تعلو وتعلو.
خارج المكان.
كانت تنطلق.
جناحان يطيران من هواء الفاتيرينات إلى هواء الشجر العاصمي.
تنساب من الفرحة الكلمات أبداً لم يكن هو.

نشرت فى جريدة الوطن بسلطنة عمان
الملتقى الأدبى – 2/9/1991م

التسميات: