العد التنازلى

3:57 م / /

العــــــدّ التنــــــازلـــــــى
 
بدأ يكتب ممسكا قلمه، وبتلابيب افكاره، تستعصي الكلمات عليه مرة، وتهاوده أخرى. غاب بعيداً بنظراته، استحوذته اللحظة الخاطفة، كتب الجملة الأولي. تفصد جبينه عرقاً، أتم الفقرة الأولي .. عاد .. يخط .. يمحو .. يستكمل كتابة قصته، عيناه تقتحمان الأوراق والأسطر.

وبينما هو غارق فى حالته، متدثرا، متزملا بأكوام الكتب، جاءه صوت كسير متقطع لشيء خشبي يتحرك وراءه. استقر الصوت بعد انتهاء الحركة. توقف. تلفت. وجده بيديه العريضتين وصوته الأجش يهمس له فى أذنه. تفضل ..." إليك هذه السيجارة " تناول صابر السيجارة ببطء شديد، متعجباً لامر ابن عمه حسام، فلم تكن له أية اهتمامات بما يكتبه، ولم يتودد إليه في أي من الأمور التي تجمعهما، لكنه الآن يدنو منه يبادله الابتسامة ويزيد عليها.
أعطي صابر حواسه جميعها ليرد على تساؤل ابن عمه.
- هل تأذن لي أن أقرأ ما تكتبه.
- طبعاً طبعاً
قالها صابر متلعثماً فى نطقها، واجفا قلبه من الآتي أصابت يديه النحيلتين رعشة هادئة وجد نفسه مندفعاً إليه.
خذ .. إليك الورقة – اقرأ ما كتبته.
بدأ حسام يقرأ الكلمات .. العنوان "العدد التنازلي". بصوت مرتفع يعيد قراءة السطر الأول والثاني .. يبدل أحرفا بأحرف، يعيد قراءة ما بدله.

عبثت يسراه بشعر رأسه الناعم المهدل فوق جبينه .. قائلاً:
ما رأيك .. يا صابر !!
نستبدل هذه الكلمة من هذا السطر، ونضع بدلها هذه الكلمة؟!!
تفرس صابر عيني قريبه، لم يدر، بما يجيب .. هل يستمع إلى ما يبديه؟! هل يرفض ان يسمع؟ !! هل يستجيب إذا سمع؟ !! هل لا؟ !! هل نعم؟ !!.
دارت فى رأسه كلمات متأججات .. "لا .. لن يغير ابن عمي ما اكتبه، كفاه تدخلا فى شؤوني. هذه القصة ملك لي، لن اغير منها حرفاً واحداً ... هذه قصتي انا، وليست قصته هو، قصتي اتممتها حقاً اتممتها".
أطفأت الكلمات المتأججة كلمات أخري باردة .. "لكنه ابن عمي .. ابن عمي وسوف يغضب مني".
كان صابر ينظر إلى عيني حسام في تردد وتوسل تائهين بينما حسام كانت تنبعث منه النظرات المطمئنة الواثقة من تحقق ما تريد.


ظلت نفس صابر تتصارع. انقسمت إلى نفسين، علا بينهما النزاع.
" لا .. لن أبدل ما كتبت ... ولكن؟ .. سوف يخاصمني، يخاصم، يخاصمني ابن عمي !!، وليكن فسوف يروق بعد يوم أو يومين، وان صمم، يصمم ... سأرفض .. سترفض يا صابر !! نعم سأرفض وبشدة واصرخ فى وجهه، ليس لك، ولا لأحد فى الدنيا تبديل حرف واحد مما أكتبه.
ارتجف صابر نكس رأسه، لاذ بالصمت وبالهدوء المميت وبالكلمات الخئون.
"حقاً .. وماذا فيها .. وما الذي يحدث عندما تتغير كلمة واحدة، سوف أحاول الاحتفاظ بحق المعني سأحتفظ بالمعني، وبذلك أكون حققت ما أريد وفرصة أن يرضي ابن عمي عني، فما زلت والله عند وصية والدي، ان لا اعصي له امرا".
وجد صابر النبرات الضعاف، تنساب رغماً عنه مخاطباً ابن عمه.
حقاً .. كما تري .. نستبدل تلك الكلمة، ونضع ما اخترته انت.

ولاحقته النبرات الشداد .. وأردف يقول:
- وعلى العكس..أراها أجمل بكثير مما اخترته أنا .. يا حسام.
بدت الجدية الصارمة على عيني حسام وحاجبيه كز على أسنانه بشدة، وهو يشرب سيجارته. اعتدل على المكتب. حرك قامته. فرد صدره العريض أشار إلى صابر، فرد صدره العريض أشاره إلى صابر، طالباً منه أن يصنع كوباً من الشاي، امسك بقلم صابر أسقطه على الأرض استخرج قلمه الفضي. بدأ يخطط أسفل الكلمة، توغل إلى كلمة أخرى، وأخرى، شطب عليها جميعاً. كتب فوقها الكلمات التي اختارها .. طلب من صابر مادة لمحو الحبر .. محا الكلمات القديمة. اظهر الكلمات الجديدة.
اعتدل ثانياً دنا من صابر.
- ما رأيك، أن نجعل المقدمة بهذا الشكل كان صابر ينوي أن يرفض يناقش، يصوب، يفعل أي مقاومة، لكن شيئاً من هذا لم يحدث ! شيء ضد النوايا أسكته ضد الود، وضد الاحتواء !!
هز صابر رأسه موافقاً، بغير تحنان يشد الفروع إلى الأصول.
عاد وهز رأسه ثانياً توقف. عن الكلام، توقف، عن السكوت، عن كل شيء توقف.
كان حسام واقفاً. جلس. اعتدل فى جلسته طلب من ابن عمه ورقة أخرى .. جارى صابر ابن العم مسرعاً، احضر له أجمل الأوراق وأثمنها، تلك التي طالما احتفظ بها وآثرها على نفسه.
بدأ حسام يعيد الكتابة، يخط، وحين كان يمعن فى الكتابة، ظل يتمتم ..
"المفروض والله يا صابر يا ابن عمي ان تشكرني على المجهود الذي ابذله معك، انت تعرف وقتي ثمين إلى أي حد!!".
جاء الموعد المحدد لتسليم القصة، صعد حسام وابن عمه صابر على السلم، زلت قدم ابن العم. تقدم خطوة ناحية باب الجريدة نهره حسام، مستوقفاً خطواته.
وأمام باب مدير التحرر .. شعر صابر بالملل حين طال انتظاره لخروج حسام، شعر أيضا بالتعب .. لأن حقيبة حسام كانت ثقيلة .. جدا ثقيلة.

التسميات: