شهد الرضيع
أزواج الأيادي والأرجل .. عبور عبور
أزواج العيون والأذن .. عبور عبور
فرادي الرؤوس .. الأنوف .. عبور عبور، ثم
توقف عند الصدور. البطون، الكسيرة، الصغيرة. وجرعات الدواء .. ما بين الشفاه .. على البؤبوات الصغيرة، برفق تام تنام: تنام فى بيوتها الفضية .. توقظ ما تحت جلد الأكتاف و .. صرخات متلاحقة للأطفال، أنغام باكية تحفظها غرفة الكشف و .. "الطفل اللى بعده".
جملة ترددها. من الأعماق تنطقها لعل الأحشاء يوما تجسدها ويضاء البيت المظلم بمصابيحه. يتحرك كل الساكن فيه تنطلق فازات الورد. تسافر عيون المفروشات. وتتزاور الحجرات يعانق الكرسي المنضدة.! زوجة فى الليل .. تجرب طقس الأمومة. تلف فراغ السرير بالرضاعات وبالصدور المرضعات .. تحييك بأشواق اليدين ملابس طفولية .. تقدمها طعام لمرآة تهيئ جو الاستحمام بودرة للطفل وأبخرة من الأشواق وفي النهار .. طبيبة تمارس مع الأمهات التشوق لشفاء أطفالهن، الوقت لديها زمن لكل مريض والحجرة طفل يروح وطفل يجيء..
والطبيبة السمراء .. ترتدي نظارتها السميكة التي تبلع كثيراً من ملامحها .. إضاءة خفيفة تنعكس من اللون الأبيض الذي ترتديه تجعل الجزء الأسفل من وجهها يبدو هادئاً وطيباً وصافياً يخالف تماماً تكشيرة الجبين وصوتها الحاد ... تكشيرة تشعر أنها مرسومة أكثر من كونها طبيعية وحدة فى صوتها، تشعر أنها منفعلة أكثر، أو أن هناك شخصاً غيرها يتحدث. طبيبة تعشق عملها، ترتدي من أجله اللون الأبيض عشر سنوات ترتدي الأبيض، حتي انعكس على الجدران، السقف، التابلوهات، المنضدة، الكرسي، الكراسي كلها بيضاء .. كراسي العيادة وكراسي المنزل .. فى المنزل الزوج، طبيب، بعد عودته من عيادته ينتظرها .. لماذا التأخير؟! أنسيت الوقت مع أطفالي .. مع أطفالك تنسي كل شيء .. التعامل مع المريض المسن غاية من التعب .. لا يهتمون .. لا يسمعون. شكائون! .. التعامل مع الأطفال مريح ولذيذ لا يأمرون .. مطيعون .. قليلا ما يتمردون.
و.. حب الأطفال .. أحب الأطفال .. تؤول دموع الزوجة إلى السقوط .. يستقبلها الخد، يهمس الزوج "أنت عندي بالدنيا" و "أمامنا العمر طويل ..".
دائرة صغيرة تصنعها الزوجة بإصبعيها الإبهام والسبابة. تقربها من أسفل عينها. تنطلق السبابة تزيح دمعا فى الفراغ البعيد، وتستقبل فى اليوم التالي دموع الأمهات اللاتي يتجمعن بكثرة أمام الباب فى العيادة يحملن أطفالهن، وأملهن معلق بين يديها.
وجاء دورها ..!
قادمة هي من القرية النائية .. بقايا الأتربة مازالت تعلق بيدها وبأطراف مولود شاحب الوجه، تحمله بيسراها، يري بنظرات غير محددة المكان، مازالت كف يده مطبقة يفتح ويغلق بؤبؤه الصغير ليأذن بالبكاء. وما تكاد صرخاته تنطلق حتي تسارعه أمه بالشيء الجلدي الذي يسكنه والمثبت علي قميصه بدبوس قديم أصاب حديده الاعوجاج، تربطهما خيوط واهنة من الصوف القديم، وقد أصابه التلف ولم تزل آثار ربطته عقد قارب تتعثر فيها كف الرضيع كلما تحركت.
وجاء دورها فدخلت ..!!
انتبهت اليها الطبيبة عند منضدة الكشف، عيناها أسفل النظارة متعبة "سأكتب لك الأدوية .. لابد أن آراها" .. دموع الام سكين يجرح الخد.
- لا تقلقي عليه .. صحته تتحسن.
- يداك كلها بركة يا دكتورة.
والرضيع مستلق على المنضدة فاتحا ذراعيه، وجهه مازال شاحباً يشوبه الاحمرار المتقطع، عند الجبين وأسفل الخدين، يبتسم مغمض العينين، ملامحه تارة نائمة، وتارة مستيقظة ..
الميزان بجانب المنضدة البيضاء، أبيض، مؤشره يقل ويزداد .. عشر سنوات يتأرجح يسارا ويمينا معلنا عن مفارقات بين من وإلى ومن جاء من الأطفال .. والطفل عيناه تلوحان إلى للنظارة السميكة .. من أسفل الجبين المجهد والمتعصب بالايشارب الأسود ترسل الأم نظرة بارقة من عينها تسافر إلى مؤشر الميزان.
" الوزن طبيعي جداً" قالتها الطبيبة وهي تطبطب على ذراع الرضيع الذي بدأ فى الصراخ المرتفع والذي يجعل أمه تعاود بدورها وتسكته.
تنطلق...
خطوتان صغيرتان خفيفتان إلى المكتب الأبيض تجلس الطبيبة. تعتدل فى جلستها تهندم كوم بلوزتها البيضاء. ترتحل من فوقه فراشة صغيرة. تنتقل وتلف الغرفة. تعود تلتصق بفم الرضيع أمسكت الطبيبة بقلمها الحبر، غير عابئة بخصلات الشعر التي تسللت من وراء أذنها استبعدت واحدة سقطت على الأوراق .. راحت تستكمل كتابة الروشتة.
خطوتان كبيرتان ثقيلتان، على اثرهما انفتح الباب. دخلت الممرضة سمينة الوجه واليدين، تحشرج صوتها الغليظ.
- أوامرك يا دكتورة
- الطفل اللى بعده
همت الممرضة بتنفيذ الأوامر، ترتعد. أن حل بها ما يجعلها تتباطأ فى تنفيذ أوامر الطبيبة خاصة إذ تشير بيديها ولا تنظر إليها، خرجت دون ان تسمع أو تري .. عيون الطبيبة فقط من أسفل نظارتها هي التي تري وأذنها تسمع. صرخات الطفل المكتومة والتي أوشكت أن تنتهي، وهو مازال عائماً على سطح الميزان .. تساءلت: "أين ذهبت أم الرضيع".
أبصرت غطاءه الذي تهدل منه ساقطا على الأرض .. لابد أن الأم انطلقت لشراء الدواء يا لها من متلهفة على رضيعها ..!
مرت دقائق عشر ... عشرون .. ثلاثون .. ولم تحضر أم الرضيع .. ربما لم تجد الدواء بالصيدلية المجاورة ... ربما ذهبت إلى واحدة أخرى .. وأخرى .. ربما لم تجد نقودا معها للشراء .. ربما .. عشرون .. ربما، تمر فى عقول الأمهات اللاتي مازلن ينتظرن فى حجرة الاستقبال.
الممرضة طويلة البال وقصيرة القامة. نفد جزء من صبرها.. صبرها كله نفد .. تقترب من الباب. تعود ثانياً .. حيث عشرات الأمهات يحملن أطفالهن على الأكتاف .. عبت الأكتاف .. مرت دقائق أخرى .. طال الانتظار.
الحجرة كانت منذ دقائق أطفالا يتتابعون .. الان، وفى انتظار أم الرضيع أصبحت طفلاً واحدا من على الميزان يضرب برجليه رائحة الأبيض التي تستشري بإرجاء الغرفة والتي تنبعث من الطبيبة السمراء وتلازمها أينما حلت. لحظات خيم الصمت بالمكان الأبيض. وفجأة!!
وفجأة شعرت الطبيبة بمن يناديها. تزييقا خفيفاً وقفت من اجله. توجهت صوب الميزان. سابقتها اليدان .. حملت الرضيع. بدأ تدرجيا يتلاشى تزييقه الضعيف ويبهت .. انتهي تماماً.
بدأت تتأمل يديه. وجهه، أطراف أصابعه المرتعشة لا إراديا. انحنت. جذبت غطاءه، دثرته فيه، قربته من صدرها.
برودة شهر يناير خارج الحجرة وبرودة اللون الأبيض داخل الحجرة، تجعل الطبيبة تقرب الرضيع أكثر وتضمه أكثر .. تجرب الدفء.
باب الحجرة مغلق عليهما، لن ينفتح إلا إذا أعطت جرساً .. تناجي عيون الطفل "ماذا لو لم أعط جرسا .. لو تأخرت .. دقائق .. نصف ساعة .. ساعة!! المنتظرون خارج الحجرة .. فلينتظرون .. سنوات وأنا أسارع فيما يطلبون .. ماذا يضيرهم لو انتظر".
الطفل عيناه دائرتان من البلور ترى وجهها فيهما، تتخلص من نظارتها، تعانق الصفاء بالاشتياق إليه .. تبادل البراءة بالاشتياق إليها .. تحمل الطفل. تقرب به ناحية الشباك .. هل تقرع الممرضة الباب .. فلتقرع ما تشاء .. سوف ألاحقها بالرد.
انتظر قليلاً .. هل كثر على التأمل .. التمني .. التبادل؟
بكى الطفل، شفتان رقيقتان تتحركان .. تلامسهما بخدها .. جلده طري كالعجين بعد أن يختمر ترفعه إلى كتفها. تربت عليه، تضمه بحرارة ربما تكون آخر مرة .. وبعدها ستأتي أمه لابد .. بعد وقت طال أم قصر "هل تتأخر أمه؟! ليتها تتأخر، ليتها لا تحضر أبداً .. تراه كيف كان فى أحشائها .. صورته الجنينية وحجمي .. اكوره. أضم يديه مع الأرجل، أدخله في .. اعيده جنيناً .. هل يعاودني أمل.
الطفل يتماوج بين شاطئ يديها .. تظهر منه ملابس دمور قديمة سمينة مرتبة قدماه عاريتان مكسوتان بالغبار .. تمسح الأتربة. تواصل المسح "سوف أبدل تلك الملابس، ملابسه تملأ شماعاتي ودولابي، سريري مع أشواقي كلنا .. كلنا ننتظره، وروائحي تعتقت من الانتظار.
همهمات وأصوات تنبعث من حجرة الاستقبال والممرضة تفسح طريقاً أمام الباب لتدخل الأم .. أم الرضيع مازالت تلتقط انفاسها. دخلت، انتظرت واقفة. انتهت الطبيبة من إلقاء نظرتها على الدواء .. حملت الأم بيسراها الدواء، وبيمناها حملت رضيعها. وفوق ملابسه رائحة الأبيض تغزو جسده وملامحه وعيناه معلقتان صوب عينين على المكتب الأبيض .. عينا الطبيبة التي مازالت ترسلهما إلى أن انغلق الباب. أعطت جرساً.
الطفل اللى بعده.
من الأعماق تنطقها، لعل الأحشاء يوما تجسدها ويضاء البيت المظلم بمصابيحه، يتحرك كل الساكن فيه فتنطلق فازات الورد. تسافر عيون المفروشات. تزاور الحجرات. ويعانق الكرسي المنضدة.
وفي الليل زوجة تفتش أشياءها، رائحة بقايا اللبن التي سقطت من فم الرضيع والممزوجة بدموع بكائه مازالت عالقة على كم بلوزتها البيضاء التي اختفت منها رائحة الأبيض.
نشرت فى جريدة عمان
الملحق الثقافي 10/1/1991
أزواج الأيادي والأرجل .. عبور عبور
أزواج العيون والأذن .. عبور عبور
فرادي الرؤوس .. الأنوف .. عبور عبور، ثم
توقف عند الصدور. البطون، الكسيرة، الصغيرة. وجرعات الدواء .. ما بين الشفاه .. على البؤبوات الصغيرة، برفق تام تنام: تنام فى بيوتها الفضية .. توقظ ما تحت جلد الأكتاف و .. صرخات متلاحقة للأطفال، أنغام باكية تحفظها غرفة الكشف و .. "الطفل اللى بعده".
جملة ترددها. من الأعماق تنطقها لعل الأحشاء يوما تجسدها ويضاء البيت المظلم بمصابيحه. يتحرك كل الساكن فيه تنطلق فازات الورد. تسافر عيون المفروشات. وتتزاور الحجرات يعانق الكرسي المنضدة.! زوجة فى الليل .. تجرب طقس الأمومة. تلف فراغ السرير بالرضاعات وبالصدور المرضعات .. تحييك بأشواق اليدين ملابس طفولية .. تقدمها طعام لمرآة تهيئ جو الاستحمام بودرة للطفل وأبخرة من الأشواق وفي النهار .. طبيبة تمارس مع الأمهات التشوق لشفاء أطفالهن، الوقت لديها زمن لكل مريض والحجرة طفل يروح وطفل يجيء..
والطبيبة السمراء .. ترتدي نظارتها السميكة التي تبلع كثيراً من ملامحها .. إضاءة خفيفة تنعكس من اللون الأبيض الذي ترتديه تجعل الجزء الأسفل من وجهها يبدو هادئاً وطيباً وصافياً يخالف تماماً تكشيرة الجبين وصوتها الحاد ... تكشيرة تشعر أنها مرسومة أكثر من كونها طبيعية وحدة فى صوتها، تشعر أنها منفعلة أكثر، أو أن هناك شخصاً غيرها يتحدث. طبيبة تعشق عملها، ترتدي من أجله اللون الأبيض عشر سنوات ترتدي الأبيض، حتي انعكس على الجدران، السقف، التابلوهات، المنضدة، الكرسي، الكراسي كلها بيضاء .. كراسي العيادة وكراسي المنزل .. فى المنزل الزوج، طبيب، بعد عودته من عيادته ينتظرها .. لماذا التأخير؟! أنسيت الوقت مع أطفالي .. مع أطفالك تنسي كل شيء .. التعامل مع المريض المسن غاية من التعب .. لا يهتمون .. لا يسمعون. شكائون! .. التعامل مع الأطفال مريح ولذيذ لا يأمرون .. مطيعون .. قليلا ما يتمردون.
و.. حب الأطفال .. أحب الأطفال .. تؤول دموع الزوجة إلى السقوط .. يستقبلها الخد، يهمس الزوج "أنت عندي بالدنيا" و "أمامنا العمر طويل ..".
دائرة صغيرة تصنعها الزوجة بإصبعيها الإبهام والسبابة. تقربها من أسفل عينها. تنطلق السبابة تزيح دمعا فى الفراغ البعيد، وتستقبل فى اليوم التالي دموع الأمهات اللاتي يتجمعن بكثرة أمام الباب فى العيادة يحملن أطفالهن، وأملهن معلق بين يديها.
وجاء دورها ..!
قادمة هي من القرية النائية .. بقايا الأتربة مازالت تعلق بيدها وبأطراف مولود شاحب الوجه، تحمله بيسراها، يري بنظرات غير محددة المكان، مازالت كف يده مطبقة يفتح ويغلق بؤبؤه الصغير ليأذن بالبكاء. وما تكاد صرخاته تنطلق حتي تسارعه أمه بالشيء الجلدي الذي يسكنه والمثبت علي قميصه بدبوس قديم أصاب حديده الاعوجاج، تربطهما خيوط واهنة من الصوف القديم، وقد أصابه التلف ولم تزل آثار ربطته عقد قارب تتعثر فيها كف الرضيع كلما تحركت.
وجاء دورها فدخلت ..!!
انتبهت اليها الطبيبة عند منضدة الكشف، عيناها أسفل النظارة متعبة "سأكتب لك الأدوية .. لابد أن آراها" .. دموع الام سكين يجرح الخد.
- لا تقلقي عليه .. صحته تتحسن.
- يداك كلها بركة يا دكتورة.
والرضيع مستلق على المنضدة فاتحا ذراعيه، وجهه مازال شاحباً يشوبه الاحمرار المتقطع، عند الجبين وأسفل الخدين، يبتسم مغمض العينين، ملامحه تارة نائمة، وتارة مستيقظة ..
الميزان بجانب المنضدة البيضاء، أبيض، مؤشره يقل ويزداد .. عشر سنوات يتأرجح يسارا ويمينا معلنا عن مفارقات بين من وإلى ومن جاء من الأطفال .. والطفل عيناه تلوحان إلى للنظارة السميكة .. من أسفل الجبين المجهد والمتعصب بالايشارب الأسود ترسل الأم نظرة بارقة من عينها تسافر إلى مؤشر الميزان.
" الوزن طبيعي جداً" قالتها الطبيبة وهي تطبطب على ذراع الرضيع الذي بدأ فى الصراخ المرتفع والذي يجعل أمه تعاود بدورها وتسكته.
تنطلق...
خطوتان صغيرتان خفيفتان إلى المكتب الأبيض تجلس الطبيبة. تعتدل فى جلستها تهندم كوم بلوزتها البيضاء. ترتحل من فوقه فراشة صغيرة. تنتقل وتلف الغرفة. تعود تلتصق بفم الرضيع أمسكت الطبيبة بقلمها الحبر، غير عابئة بخصلات الشعر التي تسللت من وراء أذنها استبعدت واحدة سقطت على الأوراق .. راحت تستكمل كتابة الروشتة.
خطوتان كبيرتان ثقيلتان، على اثرهما انفتح الباب. دخلت الممرضة سمينة الوجه واليدين، تحشرج صوتها الغليظ.
- أوامرك يا دكتورة
- الطفل اللى بعده
همت الممرضة بتنفيذ الأوامر، ترتعد. أن حل بها ما يجعلها تتباطأ فى تنفيذ أوامر الطبيبة خاصة إذ تشير بيديها ولا تنظر إليها، خرجت دون ان تسمع أو تري .. عيون الطبيبة فقط من أسفل نظارتها هي التي تري وأذنها تسمع. صرخات الطفل المكتومة والتي أوشكت أن تنتهي، وهو مازال عائماً على سطح الميزان .. تساءلت: "أين ذهبت أم الرضيع".
أبصرت غطاءه الذي تهدل منه ساقطا على الأرض .. لابد أن الأم انطلقت لشراء الدواء يا لها من متلهفة على رضيعها ..!
مرت دقائق عشر ... عشرون .. ثلاثون .. ولم تحضر أم الرضيع .. ربما لم تجد الدواء بالصيدلية المجاورة ... ربما ذهبت إلى واحدة أخرى .. وأخرى .. ربما لم تجد نقودا معها للشراء .. ربما .. عشرون .. ربما، تمر فى عقول الأمهات اللاتي مازلن ينتظرن فى حجرة الاستقبال.
الممرضة طويلة البال وقصيرة القامة. نفد جزء من صبرها.. صبرها كله نفد .. تقترب من الباب. تعود ثانياً .. حيث عشرات الأمهات يحملن أطفالهن على الأكتاف .. عبت الأكتاف .. مرت دقائق أخرى .. طال الانتظار.
الحجرة كانت منذ دقائق أطفالا يتتابعون .. الان، وفى انتظار أم الرضيع أصبحت طفلاً واحدا من على الميزان يضرب برجليه رائحة الأبيض التي تستشري بإرجاء الغرفة والتي تنبعث من الطبيبة السمراء وتلازمها أينما حلت. لحظات خيم الصمت بالمكان الأبيض. وفجأة!!
وفجأة شعرت الطبيبة بمن يناديها. تزييقا خفيفاً وقفت من اجله. توجهت صوب الميزان. سابقتها اليدان .. حملت الرضيع. بدأ تدرجيا يتلاشى تزييقه الضعيف ويبهت .. انتهي تماماً.
بدأت تتأمل يديه. وجهه، أطراف أصابعه المرتعشة لا إراديا. انحنت. جذبت غطاءه، دثرته فيه، قربته من صدرها.
برودة شهر يناير خارج الحجرة وبرودة اللون الأبيض داخل الحجرة، تجعل الطبيبة تقرب الرضيع أكثر وتضمه أكثر .. تجرب الدفء.
باب الحجرة مغلق عليهما، لن ينفتح إلا إذا أعطت جرساً .. تناجي عيون الطفل "ماذا لو لم أعط جرسا .. لو تأخرت .. دقائق .. نصف ساعة .. ساعة!! المنتظرون خارج الحجرة .. فلينتظرون .. سنوات وأنا أسارع فيما يطلبون .. ماذا يضيرهم لو انتظر".
الطفل عيناه دائرتان من البلور ترى وجهها فيهما، تتخلص من نظارتها، تعانق الصفاء بالاشتياق إليه .. تبادل البراءة بالاشتياق إليها .. تحمل الطفل. تقرب به ناحية الشباك .. هل تقرع الممرضة الباب .. فلتقرع ما تشاء .. سوف ألاحقها بالرد.
انتظر قليلاً .. هل كثر على التأمل .. التمني .. التبادل؟
بكى الطفل، شفتان رقيقتان تتحركان .. تلامسهما بخدها .. جلده طري كالعجين بعد أن يختمر ترفعه إلى كتفها. تربت عليه، تضمه بحرارة ربما تكون آخر مرة .. وبعدها ستأتي أمه لابد .. بعد وقت طال أم قصر "هل تتأخر أمه؟! ليتها تتأخر، ليتها لا تحضر أبداً .. تراه كيف كان فى أحشائها .. صورته الجنينية وحجمي .. اكوره. أضم يديه مع الأرجل، أدخله في .. اعيده جنيناً .. هل يعاودني أمل.
الطفل يتماوج بين شاطئ يديها .. تظهر منه ملابس دمور قديمة سمينة مرتبة قدماه عاريتان مكسوتان بالغبار .. تمسح الأتربة. تواصل المسح "سوف أبدل تلك الملابس، ملابسه تملأ شماعاتي ودولابي، سريري مع أشواقي كلنا .. كلنا ننتظره، وروائحي تعتقت من الانتظار.
همهمات وأصوات تنبعث من حجرة الاستقبال والممرضة تفسح طريقاً أمام الباب لتدخل الأم .. أم الرضيع مازالت تلتقط انفاسها. دخلت، انتظرت واقفة. انتهت الطبيبة من إلقاء نظرتها على الدواء .. حملت الأم بيسراها الدواء، وبيمناها حملت رضيعها. وفوق ملابسه رائحة الأبيض تغزو جسده وملامحه وعيناه معلقتان صوب عينين على المكتب الأبيض .. عينا الطبيبة التي مازالت ترسلهما إلى أن انغلق الباب. أعطت جرساً.
الطفل اللى بعده.
من الأعماق تنطقها، لعل الأحشاء يوما تجسدها ويضاء البيت المظلم بمصابيحه، يتحرك كل الساكن فيه فتنطلق فازات الورد. تسافر عيون المفروشات. تزاور الحجرات. ويعانق الكرسي المنضدة.
وفي الليل زوجة تفتش أشياءها، رائحة بقايا اللبن التي سقطت من فم الرضيع والممزوجة بدموع بكائه مازالت عالقة على كم بلوزتها البيضاء التي اختفت منها رائحة الأبيض.
نشرت فى جريدة عمان
الملحق الثقافي 10/1/1991