التسميات:
تحولات،فى،كيميا،البشر
لى من الأحبة ... ثلاثة ... هم عدتى وعتادى
يبادلوننى المحبة ...
ويغضون الطرف عن عثراتى
هند ... و
نديم .... و
وليد ... زهرات عمرى وحياتى
ينادوننى "ماما" فيرقص قلبى من الخفقاتِ
فى قربهم ، شوقى لهم ...
وأدعوا لهم فى كل صلاتى
فيارب ... احفظهم لى ...
زادى ونصرتى وفرحتى بالآتى
....
أهدى لهم قصصى وكتبى ...
ومالى من الأغنياتِِ
ماما
حنان
حنان فتحي .. بين واقعها الخارجي والداخلى
الراوي فى هذه المجموعة القصصية : " كيميا البشر " ، عليم بذات منشطرة ، وهو ما يميز هذه الكتابة ، ويجعلها تأخذنا على أجنحتها ، إلى الخارجي والداخلى .. فى تناولها الخارجي تعبر الكاتبة عن العقل وفيما يصدره من أحكام على جميع الشخوص ، ومن كانت تلتقى بهم فى حياتها .
فى تناولها الداخلى تعبر عن أفراح القلب ونقاء السريرة ؛ فى نثر بعيد عن الزخارف وبرقشة اللغة ، وليس فى الخارجي ، والداخلى صوراً متخيلة ، بل ويقف إلى جوار هذه العناصر التجربة الشخصية ، وهي ساردة لمعاناتها بضمير المتكلم ، مؤملة أن تكشف الغطاء عن ما تنطوي عليه مشاعر النفس البشرية .
إن الكاتبة هنا لا تعيد إنتاج الواقع على ضوء الواقع الزماني أو الواقع المكاني ، بل أنها تستشرف رؤي وآمال ، وطموحات الإنسان الذى ينشد الرفعة والكمال .
الراوي فى هذه المجموعة القصصية : " كيميا البشر " ، عليم بذات منشطرة ، وهو ما يميز هذه الكتابة ، ويجعلها تأخذنا على أجنحتها ، إلى الخارجي والداخلى .. فى تناولها الخارجي تعبر الكاتبة عن العقل وفيما يصدره من أحكام على جميع الشخوص ، ومن كانت تلتقى بهم فى حياتها .
فى تناولها الداخلى تعبر عن أفراح القلب ونقاء السريرة ؛ فى نثر بعيد عن الزخارف وبرقشة اللغة ، وليس فى الخارجي ، والداخلى صوراً متخيلة ، بل ويقف إلى جوار هذه العناصر التجربة الشخصية ، وهي ساردة لمعاناتها بضمير المتكلم ، مؤملة أن تكشف الغطاء عن ما تنطوي عليه مشاعر النفس البشرية .
إن الكاتبة هنا لا تعيد إنتاج الواقع على ضوء الواقع الزماني أو الواقع المكاني ، بل أنها تستشرف رؤي وآمال ، وطموحات الإنسان الذى ينشد الرفعة والكمال .
تحولات فى كيميا البشر
-1-
كتله واحدة(!!)
يمر العام تتجزأ إلى كتلتين يمر العام تتجزأ إلى ثلاث إلى أربع تتجزأ لكنها تستمر وتحيا، وتألفت على توحدها وترابطها ودوران البروتونات الصغيرة حول مدارة النوة الأم (!!)
الأم، وبناتها الثلاث ... فى الاستيقاظ هن معا، ومعا فى النوم، وربما رؤياهن فيالليل واحدة، ونبضات قلوبهن من الخوف ومن الفرح ومن الجرح واحدة (!!)
إذا أكلت صغراهن شبعت الكبرى، وإذا تألمت كبراهن بكت الصغرى، والمدار لا ينفصل أبداً عن فضاء الحب الذي حوطهن بقوى الجذب من اللحم والدم والأنفاس والطيب (!!)
وأبدأ لن تتوب العينان الساهرتان عن غطاء الأجسام الصغيرة كل مساء (!!)
وأبداً لن يمل الصدر الحنون عن احتضان الأكوان الحبيبة كل صباح (!!)
* * *
ذات صباح للأوراق النقدية فئة الألف والألفين .. والخمسة والعشرة، كان يتشكل حول النواة سياج يؤلمها، ويدغدغها. يهد كيانها (!!)
لم تكن تعلم الأم ان للأوراق وحزا كوخز الإبرة، وللأوراق وقع كوقع السهام (!!)
وتمضي الأيام .. ويخرج السياج الأم عن المدار للبنات الثلاث يفتت حبال الجذب ، يعلم العينين تكفين المآقي، ينفر الصدر من الحنان .. وحيدة هي تصحو، وتغفو، وتتمني ...، وحيدة هي تهبط وتحتضر وتتدني (!!)
والمدار يؤول إلى صغار، يتشاجرن، يتضاحكن .. يأكلن ويكبرن يتهامسن ويتغامزن، يتسابقن مع النهار...!! أليس هن الصغار!!
-2-
كانت تمشي – كعادتها معه- فى تأخر، ليسبق هو،، ويمشي فى تياسر، ليتيامن هو،...
وكعادتها معه، تزوم حين يبتسم ... تسكت حين يثرثر ! !
كانت تتنهد وهو يبصق على الفسيل الأخضر، ويأمرها: "انهضي نحن فى الطريق" !!
سحبت يدها الحانية، من يد طفلتها .. ساقتها إلى جواره، تشابكت أصابع الطفلة الهزيلة . بأصابع الأب الخشنة القوية. الأم ترقب ضحكات الابنة، لتضئ الفراغ الذي أظلمته الكلمات المفزعات
"خائبة .. مهملة .. متعبة .. دائماً ...!!"
وكعادتها تنظر إلى سماء الله، كلما شق عليها أمرها، تنظر، ولا تنطق، ويكاد المكنون المتكابد المنصهر يتأجج ويستجيب إلى نداءات وتوسلات ورجاءات وعذابات (!!)
" انهضي .. نحن فى الطريق "
يعيدها الزوج هذه المرة، فى غير ود أو تراحم أو حنان (!!)
تنهض – تعتصر حقيبة يدها السوداء. تسير مسرعة ليتباطأ هو ...، وتمضي العواصف
والأتربة والعربات ذات الألوان المختلفة (!!)
ولحظة، تقف تنظر الإشارة (!!) بينما الزوج والطفلة قد عبرا الطريق، ولحظة، تتجمع أجساد كل البشر المارين فى جسد ضخم واحد ولحظة، تصب كل النظرات الحنون في نظرة واحدة، يسلطها الآدمي كسهام مفزعة، وغربان أكولة!! تتوقف هي .. ترتعش .. تبصر بأعين متوجسة وتتشبث بمن فى الطريق المقابل، تتوسل بالعبرات والزفرات الحارة. ترقب البعيد الذي ينتظرها وقد أدمي قلبها، وتتمني لأول مرة قسوته "انهضي نحن فى الطريق"
ما إن رأت الضوء الأخضر ضاربا فى العمود المعدني، حتى جرت والسهام المرتشقة بها لم تزل تفزعها، والغربان الأكولة لم تزل تنهشها (!!) تجري، وتجري، وترتاح، وتمسك بحبال النجاة من الغرق، هذه الحبال اللحمية والتي انتهت خشونتها، سوف تمسك بتلابيبها باقي العمر (!!)
تمشي معها ومعه .. الخطوة إلى جوار الخطوة (!!)
وطفلتهما بينهما، تقفز من ثغرها الضحكة.
-3-
عادت من عملها، فى ساعة متأخرة من النهار، مسحت عرق الجبين بمنديل ورقي قديم، كان آخر منديل بالعلبة الورقية. فتحت صنبور المياه، بحثت عن قطرة واحدة.. دون جدوى!! ضغطت على المفتاح الكهربائي.
لعل اللمبة الصغيرة ترحم حالها، وتضيء، وتبصر وسط هذه العتمة لكن شيئاً من هذا لم يحدث !!
ألقت بالحقيبة والأوراق على المنضدة. سقطت مفاتيح المكتب والشقة من يدها. أحدثت صوتاً مشروخاً على الزجاج المشروخ (!!) لم تأبه بصراخ رضيعها. نهضت إلى حجرة الطعام جرت نحو الكيس الذي تلف به الأرغفة. كان الكيس فارغاً تماماً إلا من كسرات قديمة مقددة. مشت بخطوات متعبة إلى الحجرة المظلمة. كانت تنهر ابنتها. توشك أن تضربها وهي تزمجر وتتمتم "حتى الأرغفة ..!! حتى الخبز... !! لا يوجد"
عاد من العمل متعباً ، يفر المفتاح ويرتعش من بين أصابعه وهو يضعه فى ثقب الكالون المعدني، أغلق الباب. جلس، مسح عرق جبينه بيسراه المتعبة. نادي ابنته: "كوب ماء..
أريد كوب ماء!! ""
لم يلق جواباً. وقف. أدار جهاز الراديو، لم ينطق, أغلق الجهاز وبخطوات بطيئة سعي إلى حجرة الطعام، فتش عن رغيف طرى أو ناشف .. دون جدوى !! سعي ثانياً إلى الحجرة المظلمة .. جلس على المقعد المقابل لزوجته. ظل يتمتم، وهي تصغي إلى تمتماته
: " ماء.. لا يوجد .. كهرباء .. لا يوجد، حتى الرغيف .. لا يوجد !! "
لم يجد الزوج راحة إلا أن ينظر إلى زوجته، شعور واحد بالضيق وبالضجر وبالأرق الذي يجمعهما !!
لم تجد الزوجة راحة إلا أن تنظر إلى زوجها، مشاعر واحدة بالتعب والحيرة والظلمة تجمعهما !!
تدرجات واحدة تحيطهما من العطش إلي الظمأ إلى الصدى إلى الغلة! ومن الجوع إلى السغب إلى الطوى إلى المخمصة (!!)
ثم حاجة مشتركة من النعاس إلى الوسن إلى الرقود إلى الهجوع !!
كانت ابنتها قد انتهت من الطرق على باب الحجرة المظلمة .. خرجت الأم. قبلت ابنتها فى حنان غير معهود. حملت صغيرتها. راحت تسكتها بهدوء. أحضرت كسرات الخبز.
المقدد ظلت تأكل منها فى استمتاع !!
خرج الأب .. أنعشته قطرات الماء القليلة، كان يدندن الأغنيات ويشعر بحلاوة صوته
لأول مرة كأحلي ما تغني (!!) تأمل الأشياء من حواليه وهذا الضوء الساحر الذي يلف الحجرة الظلمة .. هل ما زالت مظلمة؟ !!
من قال إنها كانت منذ دقائق حجرة مظلمة؟ من قال ذلك؟! من قال...؟ !
نشرت فى مجلة المنتدى العدد (130)
ذو القعدة 1414م - مايو 1994م
* وتم نشر هذه القصة فى موقع دنيا الرأى بتاريخ 18 سبتمبر 2010 رابط : http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2010/09/18/209661.html
-1-
كتله واحدة(!!)
يمر العام تتجزأ إلى كتلتين يمر العام تتجزأ إلى ثلاث إلى أربع تتجزأ لكنها تستمر وتحيا، وتألفت على توحدها وترابطها ودوران البروتونات الصغيرة حول مدارة النوة الأم (!!)
الأم، وبناتها الثلاث ... فى الاستيقاظ هن معا، ومعا فى النوم، وربما رؤياهن فيالليل واحدة، ونبضات قلوبهن من الخوف ومن الفرح ومن الجرح واحدة (!!)
إذا أكلت صغراهن شبعت الكبرى، وإذا تألمت كبراهن بكت الصغرى، والمدار لا ينفصل أبداً عن فضاء الحب الذي حوطهن بقوى الجذب من اللحم والدم والأنفاس والطيب (!!)
وأبدأ لن تتوب العينان الساهرتان عن غطاء الأجسام الصغيرة كل مساء (!!)
وأبداً لن يمل الصدر الحنون عن احتضان الأكوان الحبيبة كل صباح (!!)
* * *
ذات صباح للأوراق النقدية فئة الألف والألفين .. والخمسة والعشرة، كان يتشكل حول النواة سياج يؤلمها، ويدغدغها. يهد كيانها (!!)
لم تكن تعلم الأم ان للأوراق وحزا كوخز الإبرة، وللأوراق وقع كوقع السهام (!!)
وتمضي الأيام .. ويخرج السياج الأم عن المدار للبنات الثلاث يفتت حبال الجذب ، يعلم العينين تكفين المآقي، ينفر الصدر من الحنان .. وحيدة هي تصحو، وتغفو، وتتمني ...، وحيدة هي تهبط وتحتضر وتتدني (!!)
والمدار يؤول إلى صغار، يتشاجرن، يتضاحكن .. يأكلن ويكبرن يتهامسن ويتغامزن، يتسابقن مع النهار...!! أليس هن الصغار!!
-2-
كانت تمشي – كعادتها معه- فى تأخر، ليسبق هو،، ويمشي فى تياسر، ليتيامن هو،...
وكعادتها معه، تزوم حين يبتسم ... تسكت حين يثرثر ! !
كانت تتنهد وهو يبصق على الفسيل الأخضر، ويأمرها: "انهضي نحن فى الطريق" !!
سحبت يدها الحانية، من يد طفلتها .. ساقتها إلى جواره، تشابكت أصابع الطفلة الهزيلة . بأصابع الأب الخشنة القوية. الأم ترقب ضحكات الابنة، لتضئ الفراغ الذي أظلمته الكلمات المفزعات
"خائبة .. مهملة .. متعبة .. دائماً ...!!"
وكعادتها تنظر إلى سماء الله، كلما شق عليها أمرها، تنظر، ولا تنطق، ويكاد المكنون المتكابد المنصهر يتأجج ويستجيب إلى نداءات وتوسلات ورجاءات وعذابات (!!)
" انهضي .. نحن فى الطريق "
يعيدها الزوج هذه المرة، فى غير ود أو تراحم أو حنان (!!)
تنهض – تعتصر حقيبة يدها السوداء. تسير مسرعة ليتباطأ هو ...، وتمضي العواصف
والأتربة والعربات ذات الألوان المختلفة (!!)
ولحظة، تقف تنظر الإشارة (!!) بينما الزوج والطفلة قد عبرا الطريق، ولحظة، تتجمع أجساد كل البشر المارين فى جسد ضخم واحد ولحظة، تصب كل النظرات الحنون في نظرة واحدة، يسلطها الآدمي كسهام مفزعة، وغربان أكولة!! تتوقف هي .. ترتعش .. تبصر بأعين متوجسة وتتشبث بمن فى الطريق المقابل، تتوسل بالعبرات والزفرات الحارة. ترقب البعيد الذي ينتظرها وقد أدمي قلبها، وتتمني لأول مرة قسوته "انهضي نحن فى الطريق"
ما إن رأت الضوء الأخضر ضاربا فى العمود المعدني، حتى جرت والسهام المرتشقة بها لم تزل تفزعها، والغربان الأكولة لم تزل تنهشها (!!) تجري، وتجري، وترتاح، وتمسك بحبال النجاة من الغرق، هذه الحبال اللحمية والتي انتهت خشونتها، سوف تمسك بتلابيبها باقي العمر (!!)
تمشي معها ومعه .. الخطوة إلى جوار الخطوة (!!)
وطفلتهما بينهما، تقفز من ثغرها الضحكة.
-3-
عادت من عملها، فى ساعة متأخرة من النهار، مسحت عرق الجبين بمنديل ورقي قديم، كان آخر منديل بالعلبة الورقية. فتحت صنبور المياه، بحثت عن قطرة واحدة.. دون جدوى!! ضغطت على المفتاح الكهربائي.
لعل اللمبة الصغيرة ترحم حالها، وتضيء، وتبصر وسط هذه العتمة لكن شيئاً من هذا لم يحدث !!
ألقت بالحقيبة والأوراق على المنضدة. سقطت مفاتيح المكتب والشقة من يدها. أحدثت صوتاً مشروخاً على الزجاج المشروخ (!!) لم تأبه بصراخ رضيعها. نهضت إلى حجرة الطعام جرت نحو الكيس الذي تلف به الأرغفة. كان الكيس فارغاً تماماً إلا من كسرات قديمة مقددة. مشت بخطوات متعبة إلى الحجرة المظلمة. كانت تنهر ابنتها. توشك أن تضربها وهي تزمجر وتتمتم "حتى الأرغفة ..!! حتى الخبز... !! لا يوجد"
عاد من العمل متعباً ، يفر المفتاح ويرتعش من بين أصابعه وهو يضعه فى ثقب الكالون المعدني، أغلق الباب. جلس، مسح عرق جبينه بيسراه المتعبة. نادي ابنته: "كوب ماء..
أريد كوب ماء!! ""
لم يلق جواباً. وقف. أدار جهاز الراديو، لم ينطق, أغلق الجهاز وبخطوات بطيئة سعي إلى حجرة الطعام، فتش عن رغيف طرى أو ناشف .. دون جدوى !! سعي ثانياً إلى الحجرة المظلمة .. جلس على المقعد المقابل لزوجته. ظل يتمتم، وهي تصغي إلى تمتماته
: " ماء.. لا يوجد .. كهرباء .. لا يوجد، حتى الرغيف .. لا يوجد !! "
لم يجد الزوج راحة إلا أن ينظر إلى زوجته، شعور واحد بالضيق وبالضجر وبالأرق الذي يجمعهما !!
لم تجد الزوجة راحة إلا أن تنظر إلى زوجها، مشاعر واحدة بالتعب والحيرة والظلمة تجمعهما !!
تدرجات واحدة تحيطهما من العطش إلي الظمأ إلى الصدى إلى الغلة! ومن الجوع إلى السغب إلى الطوى إلى المخمصة (!!)
ثم حاجة مشتركة من النعاس إلى الوسن إلى الرقود إلى الهجوع !!
كانت ابنتها قد انتهت من الطرق على باب الحجرة المظلمة .. خرجت الأم. قبلت ابنتها فى حنان غير معهود. حملت صغيرتها. راحت تسكتها بهدوء. أحضرت كسرات الخبز.
المقدد ظلت تأكل منها فى استمتاع !!
خرج الأب .. أنعشته قطرات الماء القليلة، كان يدندن الأغنيات ويشعر بحلاوة صوته
لأول مرة كأحلي ما تغني (!!) تأمل الأشياء من حواليه وهذا الضوء الساحر الذي يلف الحجرة الظلمة .. هل ما زالت مظلمة؟ !!
من قال إنها كانت منذ دقائق حجرة مظلمة؟ من قال ذلك؟! من قال...؟ !
نشرت فى مجلة المنتدى العدد (130)
ذو القعدة 1414م - مايو 1994م
* وتم نشر هذه القصة فى موقع دنيا الرأى بتاريخ 18 سبتمبر 2010 رابط : http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2010/09/18/209661.html
بعد اللقاء الأول
رجل و .. رجل
امرأة أمام .. أمرأة
طفلة مع .. طفلة.
و .. صدفة أولي جمعتنا..!!
قلنا: هيا إلى الحديقة .. تمشينا، تجمعنا. توقفنا. تفرقنا!! .. الرجلان هناك. استقلا المقاعد الخشبية فى الركن الأول.
الأرجل على الأرجل تتأرجح، لأن القلب متوقف..، لا يتنابض. وحديث فى الزهو تصاعد، وتفاخر يجري بينهما.. كيف تتزايد عندي لملمة الورق الأخضر !؟؟
أنا والمرأة هنا. اخترنا النجيلة الخضراء. افترشنا. جلسنا. بيننا مسافة حقيبة ورقية، وبيننا مسافة المدي الكبير ..!!
حدثتني .. حدثتها .. تحدثنا الكثير، لكننا لم نقل شيئاً!! تبادلنا الثنائيات تمحو الثنائيات!!
رسمنا ابتسامتين مواجهتين، تخفيان نظرتين حزينتين.
حملت طفلتها على كتفها واستبقتها الخطوات .. إلى الأمام طفلتي بجواري. أولينا ظهرينا للمكان ومضينا.
* * *
طفلتي تميل برأسها على كتفها الأيسر تنظر بعين المني إلى الوراء. عيناها اغرورقتا بالدموع تناجي الحبيبة التي سكنت كتف المرأة. الساكنة تناجيها، كأنها تنطق بلغة الحب الأولي أنا أحبك .. لا تتركيني.
طفلتي تسمع المناجاة. تلوح بيدها فى ود وعطف .. انعطف بنا الطريق تاركا .. فراغ الحبيبة .. وفرحتان على الرصيف .. وعينان متشبثتان إلى الوراء.
نشرت فى مجلة المنتدى العدد (106)
شوال 1412ه- مايو 1992م
رجل و .. رجل
امرأة أمام .. أمرأة
طفلة مع .. طفلة.
و .. صدفة أولي جمعتنا..!!
قلنا: هيا إلى الحديقة .. تمشينا، تجمعنا. توقفنا. تفرقنا!! .. الرجلان هناك. استقلا المقاعد الخشبية فى الركن الأول.
الأرجل على الأرجل تتأرجح، لأن القلب متوقف..، لا يتنابض. وحديث فى الزهو تصاعد، وتفاخر يجري بينهما.. كيف تتزايد عندي لملمة الورق الأخضر !؟؟
أنا والمرأة هنا. اخترنا النجيلة الخضراء. افترشنا. جلسنا. بيننا مسافة حقيبة ورقية، وبيننا مسافة المدي الكبير ..!!
حدثتني .. حدثتها .. تحدثنا الكثير، لكننا لم نقل شيئاً!! تبادلنا الثنائيات تمحو الثنائيات!!
رسمنا ابتسامتين مواجهتين، تخفيان نظرتين حزينتين.
حملت طفلتها على كتفها واستبقتها الخطوات .. إلى الأمام طفلتي بجواري. أولينا ظهرينا للمكان ومضينا.
* * *
طفلتي تميل برأسها على كتفها الأيسر تنظر بعين المني إلى الوراء. عيناها اغرورقتا بالدموع تناجي الحبيبة التي سكنت كتف المرأة. الساكنة تناجيها، كأنها تنطق بلغة الحب الأولي أنا أحبك .. لا تتركيني.
طفلتي تسمع المناجاة. تلوح بيدها فى ود وعطف .. انعطف بنا الطريق تاركا .. فراغ الحبيبة .. وفرحتان على الرصيف .. وعينان متشبثتان إلى الوراء.
نشرت فى مجلة المنتدى العدد (106)
شوال 1412ه- مايو 1992م
الخروج عن الهارموني
كان أول طيف يعود معي ويلازمني من محطة أتوبيس شرق الدلتا إلى مطار القاهرة الدولي
هو طيفها .. "طيف صافيناز"
الآن فقط من حقي أن أسند ظهري المتعب إلى المقعد الذي خصصته لي المضيفة الأنيقة، وأن استمع إلي الصوت القادم من بعيد
".. أهلا ومرحبا بكم على متن الطائرة..
"سبحان الذي سخر لنا هذا وما ...
أكملت آنا الآية القرآنية "وما كنا له بمقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون"
ورحت أردد دعاء السفر بعد رحلة من اللهاث الطويل منذ صباح هذا اليوم، وتنقلي من موقع إلى آخر لإنهاء الأختام الخاصة بأوراق السفر. لعلني الآن أشرع في ابتسامة صامتة على وجهي المندي بحبات العرق وأتساءل "كيف اقتحمت هذه الصافينازه الجميلة خيالي وسكنت فيه؟؟
بحثت عن ورقة بيضاء وقلم، .. لم أجد !!
طلبت من ابنتي الكبرى الملتصقة بي فى المقعد المجاور أن تعيرني قلمها. قلبت الأشياء القديمة المبعثرة فى حقيبتي السوداء. لم أجد سوي بعض الوريقات القديمة المطبقة.
استخرجت أحداها، فردتها، قلبتها على الجهة البيضاء لم أكترث بما هو مكتوب فى الجهة الأخرى، تظهر لي أسطر قليلة عمودية وبعض النمنمات الكتابية، على الأرجح أنها ورقة حكومية وعلى الأكثر أنها من مصلحة البريد .. ليس هذا الشيء يهمني الان..
ما يهمني أن أكتب !!
أمسكت بقلم ابنتي الأخضر وبدأت فى الكتابة الوجدانية، ثم الكتابة الورقية. هل أنني بدأت اكتب؟ !!
نعم ...
نويت الكتابة .. وحمدت الله على هذه النعمة. ورددت" الله اكبر" ثلاثا حين صدر صوت زلزالي ينبئ بصعود الطائرة. ارتجف أبني الصغير وتشبث بي. دفعته عني لأحكم توثيق حزام الأمان على بطنه الضعيفة. علقت بذهني كلمات فى كياني .
"سبحان الله ثلاث لأرددها حين الهبوط" ثم دعائي لواحدة من أغلي صديقاتي وأخواتي فى الله كانت قد أوصتني بالدعاء بأن يفرج الله كربها."
وما بين الصعود والأستواء الجوي كانت الكلمات تتهادر من علياء الجبال الموحشة على صدري وتسقط رطبة تثلج حرارة أوقاتي التي تستبق الحسرات، وكانت الكلمات تسقط قوية وشادية لتقوي انكسار العصافير وتنطق صمتها فى قلبي. تدفقت الأنهار الحسية والشجية من بين أناملي وأنا على ارتفاع كيلومترات من سطح الأرض. ولو أنني كنت أعلم أن الكتابة فى الجو لها هذا المذاق الحلو لكنت كتبت خلال سنوات سفري أربعة وعشرين قصة جوية!!
وتذوقت بدلا من المرارة الحلاوة مرات ومرات
مرت ساعات معدودة منذ رؤيتي لها وقت الظهيرة بداخل هذا الأتوبيس المكيف والذي يفضله أولادي بدلاً من التاكسي لأنه مزود بشاشات تليفزيونية تعرض الأفلام والمسرحيات التي تقطع حد الملل وتقصر طول المسافة.
كنت أجلس في أخر الصف وعن يميني أولادي وعن يساري أخي النديم لي والذي تسعدني دوماً صحبته ورفقته وقد حمل معه من الشباك خمسة تذاكر بعددنا!!
بدأ الركاب يتوافدون راكباً وراء الآخر .. كادت المقاعد تمتلئ بهم. ثم بدأ اهتمامهم باستبدال الأماكن حسب الأرقام المكتوبة باللغة الإنجليزية خلف كل مقعد.
وقعت عيني عليها وهي واقفة، بعد أن أوقفها صاحب المقعد الذي جلست عليه بدون اذن، كانت تقف شبه منثنية متشبثة بالقعود، تحرك رأسها فى حركات دائرية لتنتفض خصلات شعرها المجعد والذي تنوء أطرافه وتئن وكأنها مجزورة بموس قديم صدئ!!
تجول الكمساري الذي يراجع التذاكر، توقف عندها. أمرها بالنزول حين لم يجد لديها تذكرة. تسمرت في موقعها وراحت ترمي بنظراتها المتمردة النمرية ثم سددت نظرة سهمية شملت أول المكان وآخره. أشفقت أنا عليها. قررت على الفور أن أخرج بقايا النقود المصرية من جيبي لأشتري لها تذكرة، لولا أنني تأملت ملابسها ولاحظت هذا "التايير القرمزي" الثمين الذي ترتديه وكنت رأيت مثله منذ أيام معروضاً بأكبر محلات الملابس الجاهزة وكنت أتمني أن أقتنيه لي ولكن ..!! مرت ثوان ودقائق ومازالت الصافينازه تتحدث وكانها عالمة ذرة معرفية أو رئيسة لقطاعات شئون الحياة.
لم تكف عن الكلام ثانية واحدة، ولم تغلق فمها أقل من الثانية.
راح كل مستمع لها يزداد إنصاتاً نحو الكلام الذي يصف دخيلتها، ورحت أنا الأخرى أنصت إلى حديثها المتشابك والممزوج بتعبيرات تلقائية وفطرية منها. لم أكن أعرف أسمها،
- ولم يناديها أحد به – ولم أكن من قبل رأيتها وأعتقد أنني لن أقوي على رؤيتها وتأملها وسماع حديثها مرة ثانية، فمثل هذه الصافينازه مسموح للإنسان أن يراها مرة واحدة فى حياته وغير مسموح له برؤيتها مرة ثانية.
هذه الصافينازه النافرة من هارموني النفوس الفاسدة .. كانت أشبه بنغمة نشاز خرجت عن هارموني قطعة موسيقية من المؤكد أن روحها الطاهرة تلتقي كل ليلة مع أرواح المؤمنين تحت عرش الرحمن ومن المؤكد أنها تسجد لله مع الطاهرين منهم كل ليلة وتزور المتصدقات والخاشعات والمستغفرات بالأسحار والمتحاملات لمتاعب أزواجهن والصابرات لأجل أطفالهن والخارجات عن هارموني الحياة الدنيا إلى الحياة فى الدار الآخرة .. هذه الصافينازه لم أكن أعرف أسمها ولكني اخترته لها مثلما اخترت أسماء أطفالي وهم القطع الصغيرة التي فصلت عنى ذات يوم !! ولكن لماذا أخترت صافيناز وليس أسماً آخر .. ربما فى طفولتها كانت أمها تناديها صافي أو أن صديقاتها كن يسمونها صافية وكلها مشتقات من صافيناز وهي بحق صافية !! صافية بحق ليست فى بشرتها البرونزية أية تعكرات، عيناها كالمساء الصافية فى صبيحة يوم هادئ وهانئ .. وأنفها الخنسائي مكتوب على جانبيه حكايات لكثير من الشرفاء والمجاهدين وصناع التاريخ. "اللي له واسطة .. يأكل بسطه، واللى مالوش واسطة يقعد ع البسطة!! "
تغنت صافية بهذه الكلمات أكثر من مرة وهي تؤرجح قدميها وساقيها الناشفتين النحيلتين بعد أن أقعدها السائق على مقعده بجواره، بدأ الركاب يتأملونها راكباً تلو الأخر هذا القارئ المثقف، ألقي بجريدته ناظراً إياها.
وهذان الشابان اللذان يتجاذبان أطراف الحديث عن الانترنيت 2 والواقع الافتراضي وأن الإنسان يمكن أن يلبس خوذة وقفازاً بالكهرباء ويلمس شاشة الكمبيوتر ليجد نفسه وراء الشاشة يشارك مسرح الأحداث..!!
ومن يدري ربما يصبح هنا فى المستقبل انترنيت 3، 4.. وبكل الأرقام وعن السيارة التي تسير بدون سائق .. هذان الشابان لم يجذبهما حديثهما الشيق وراحا يصغيان إلى حديث الصافية ...!!
وحتي هذه الأم الحنون التي تجلس بالمقعد المجاور لي.. كفت عن مداعبة طفلتها الصغيرة لتتابع كلماتها وهي تعدد
" اللى تعمله يافقي، في البنية تلتقي "
وفجأة !!
أرتفع صوت تعديدها. امتزج بالصراخ والعويل وحركات شبه هيستيرية نظرت إلى أخي الطبيب. همست فى أذنه حتى لا يستيقظ طفلي النائم على صدري سألته "هل تعاني السيدة من مرض نفسي" هستيريا مثلاً أو شوزوفرينيا أو بارانويا ؟!!
ابتسم فى هدوء وأعرض برأسه. فهمت من صمته هذا أنها غير مريضة البتة وغاية ما في الأمر أن حيلتها كانت ضعيفة مثل القشة وربما كانت هناك ضغوطاً أقوى من إمكانياتها وقدراتها.
قال الراكب الثائر "أخرجوا هذه المجنونة من الأتوبيس وإلا..."
وقالت الراكبة الثرثارة "أحضروا لها الشرطة حتى ..."
* * *
مازال طيفك يمر أمامي يا أيتها الصافية الجميلة ويأسرني مثلما تأسرني زهرة البنفسج بحزنها وبهجتها. ومازال صوتك يطغي على حديث نفسي مثلما تفرض أغنية ما نفسها على بالي طول النهار وأكون سمعتها فى الصباح الباكر بإذاعة الشرق الأوسط أو بإذاعة الشباب والرياضة مثلاً. تنفست بعمق حيث ركاب الطائرة الآن منشغلون حولي بتناول العشاء. اسقطوا المناضد الملتصقة خلف المقاعد، وراحوا يطلبون المشروبات. دون حركة ونشاط من طاقم الطائرة غدواً ورواحاً. كانت المضيفة توزع ابتساماتها على الركاب مع أبريق الشاي المتنقل. كان الماء يتساقط معانقاً الأكواب البلاستيكية بكل هذا الحنو والهدوء، تماماً مثلما حدثها ضابط الشرطة في حنو وهدوء بعد أن صرخت فى وجهه.
قائلة: "ابعدوا عني يا ناس ..."
تودد الضابط متوسلاً إليها فى ترفق ...
"يالله معاى يا...
ولكنها كانت قد نهرته بشدة بيد خالية من أية مصوغات انا.."
* * *
أنهيت طعام العشاء مع أولادي. مسحت بالمنديل الورقي بقايا الأكل حول فم الصغير !!
بدأ طيف صافيناز يمحي من مخيلتي. أوشكت أن أمسحه نهائياً لولا مشهداً أخيراً مروعاً أوشكت أن أمسح بعض الحنان مع المنديل الذي أمسح به أصابع صغيرة لطفلي ولولا أن ذرات الأمومة في صدري يتوالى أنشاطرها واتحادها دوماً لشرب الطفل مع العصير الذي يتناوله الآن المخاوف بدلاً من الأمان والغفلة بدلاً من الاهتمام!!
جالت بخاطري الأشياء التي يمكن أن تغير من كيمياء الحب وكيمياء العطاء وتخمد سيمفونية الرباط الجميل بين البرتونات والإلكترونيات الدوارة حول النوة داخل ذرات الأمومة الخالدة. وهزني الخاطر كما اهتزت وارتجفت الصافية حين جاء الحشد الكبير من رجال الشرطة ليحملونها بعد أن نزل كل الركاب ووقفوا على أسفلت الطريق، حيث شمس الظهيرة لم تزل تلهب أفكارهم ليشهدوا لها منظرا أخيراً وهي تصرخ وتعافر وهم يكتفونها ويسكتونها ويزجون بها فى تلك العربة الصغيرة ...
وتقطعت صورتها من خيالي مع تقطعات وارتجافات الطائرة حين الهبوط. تيقظ صغيري الذي أخلد إلى النوم وجاء الصوت من الميكروفون "حمد الله على سلامتكم.
دقائق قليلة وتهبط الطائرة إلى ميناء السيب الدولي درجة الحرارة الآن فى مسقط 52 درجة مئوية"
قمت. حملت الحقائب. لملمت الأشياء المبعثرة. طويت الورقة البيضاء .. أراها الآن وقد اكتظت بالكتابة، ولم يعد هناك ثمة مساحة صغيرة للكتابة ...
كان أول طيف يعود معي ويلازمني من محطة أتوبيس شرق الدلتا إلى مطار القاهرة الدولي
هو طيفها .. "طيف صافيناز"
الآن فقط من حقي أن أسند ظهري المتعب إلى المقعد الذي خصصته لي المضيفة الأنيقة، وأن استمع إلي الصوت القادم من بعيد
".. أهلا ومرحبا بكم على متن الطائرة..
"سبحان الذي سخر لنا هذا وما ...
أكملت آنا الآية القرآنية "وما كنا له بمقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون"
ورحت أردد دعاء السفر بعد رحلة من اللهاث الطويل منذ صباح هذا اليوم، وتنقلي من موقع إلى آخر لإنهاء الأختام الخاصة بأوراق السفر. لعلني الآن أشرع في ابتسامة صامتة على وجهي المندي بحبات العرق وأتساءل "كيف اقتحمت هذه الصافينازه الجميلة خيالي وسكنت فيه؟؟
بحثت عن ورقة بيضاء وقلم، .. لم أجد !!
طلبت من ابنتي الكبرى الملتصقة بي فى المقعد المجاور أن تعيرني قلمها. قلبت الأشياء القديمة المبعثرة فى حقيبتي السوداء. لم أجد سوي بعض الوريقات القديمة المطبقة.
استخرجت أحداها، فردتها، قلبتها على الجهة البيضاء لم أكترث بما هو مكتوب فى الجهة الأخرى، تظهر لي أسطر قليلة عمودية وبعض النمنمات الكتابية، على الأرجح أنها ورقة حكومية وعلى الأكثر أنها من مصلحة البريد .. ليس هذا الشيء يهمني الان..
ما يهمني أن أكتب !!
أمسكت بقلم ابنتي الأخضر وبدأت فى الكتابة الوجدانية، ثم الكتابة الورقية. هل أنني بدأت اكتب؟ !!
نعم ...
نويت الكتابة .. وحمدت الله على هذه النعمة. ورددت" الله اكبر" ثلاثا حين صدر صوت زلزالي ينبئ بصعود الطائرة. ارتجف أبني الصغير وتشبث بي. دفعته عني لأحكم توثيق حزام الأمان على بطنه الضعيفة. علقت بذهني كلمات فى كياني .
"سبحان الله ثلاث لأرددها حين الهبوط" ثم دعائي لواحدة من أغلي صديقاتي وأخواتي فى الله كانت قد أوصتني بالدعاء بأن يفرج الله كربها."
وما بين الصعود والأستواء الجوي كانت الكلمات تتهادر من علياء الجبال الموحشة على صدري وتسقط رطبة تثلج حرارة أوقاتي التي تستبق الحسرات، وكانت الكلمات تسقط قوية وشادية لتقوي انكسار العصافير وتنطق صمتها فى قلبي. تدفقت الأنهار الحسية والشجية من بين أناملي وأنا على ارتفاع كيلومترات من سطح الأرض. ولو أنني كنت أعلم أن الكتابة فى الجو لها هذا المذاق الحلو لكنت كتبت خلال سنوات سفري أربعة وعشرين قصة جوية!!
وتذوقت بدلا من المرارة الحلاوة مرات ومرات
مرت ساعات معدودة منذ رؤيتي لها وقت الظهيرة بداخل هذا الأتوبيس المكيف والذي يفضله أولادي بدلاً من التاكسي لأنه مزود بشاشات تليفزيونية تعرض الأفلام والمسرحيات التي تقطع حد الملل وتقصر طول المسافة.
كنت أجلس في أخر الصف وعن يميني أولادي وعن يساري أخي النديم لي والذي تسعدني دوماً صحبته ورفقته وقد حمل معه من الشباك خمسة تذاكر بعددنا!!
بدأ الركاب يتوافدون راكباً وراء الآخر .. كادت المقاعد تمتلئ بهم. ثم بدأ اهتمامهم باستبدال الأماكن حسب الأرقام المكتوبة باللغة الإنجليزية خلف كل مقعد.
وقعت عيني عليها وهي واقفة، بعد أن أوقفها صاحب المقعد الذي جلست عليه بدون اذن، كانت تقف شبه منثنية متشبثة بالقعود، تحرك رأسها فى حركات دائرية لتنتفض خصلات شعرها المجعد والذي تنوء أطرافه وتئن وكأنها مجزورة بموس قديم صدئ!!
تجول الكمساري الذي يراجع التذاكر، توقف عندها. أمرها بالنزول حين لم يجد لديها تذكرة. تسمرت في موقعها وراحت ترمي بنظراتها المتمردة النمرية ثم سددت نظرة سهمية شملت أول المكان وآخره. أشفقت أنا عليها. قررت على الفور أن أخرج بقايا النقود المصرية من جيبي لأشتري لها تذكرة، لولا أنني تأملت ملابسها ولاحظت هذا "التايير القرمزي" الثمين الذي ترتديه وكنت رأيت مثله منذ أيام معروضاً بأكبر محلات الملابس الجاهزة وكنت أتمني أن أقتنيه لي ولكن ..!! مرت ثوان ودقائق ومازالت الصافينازه تتحدث وكانها عالمة ذرة معرفية أو رئيسة لقطاعات شئون الحياة.
لم تكف عن الكلام ثانية واحدة، ولم تغلق فمها أقل من الثانية.
راح كل مستمع لها يزداد إنصاتاً نحو الكلام الذي يصف دخيلتها، ورحت أنا الأخرى أنصت إلى حديثها المتشابك والممزوج بتعبيرات تلقائية وفطرية منها. لم أكن أعرف أسمها،
- ولم يناديها أحد به – ولم أكن من قبل رأيتها وأعتقد أنني لن أقوي على رؤيتها وتأملها وسماع حديثها مرة ثانية، فمثل هذه الصافينازه مسموح للإنسان أن يراها مرة واحدة فى حياته وغير مسموح له برؤيتها مرة ثانية.
هذه الصافينازه النافرة من هارموني النفوس الفاسدة .. كانت أشبه بنغمة نشاز خرجت عن هارموني قطعة موسيقية من المؤكد أن روحها الطاهرة تلتقي كل ليلة مع أرواح المؤمنين تحت عرش الرحمن ومن المؤكد أنها تسجد لله مع الطاهرين منهم كل ليلة وتزور المتصدقات والخاشعات والمستغفرات بالأسحار والمتحاملات لمتاعب أزواجهن والصابرات لأجل أطفالهن والخارجات عن هارموني الحياة الدنيا إلى الحياة فى الدار الآخرة .. هذه الصافينازه لم أكن أعرف أسمها ولكني اخترته لها مثلما اخترت أسماء أطفالي وهم القطع الصغيرة التي فصلت عنى ذات يوم !! ولكن لماذا أخترت صافيناز وليس أسماً آخر .. ربما فى طفولتها كانت أمها تناديها صافي أو أن صديقاتها كن يسمونها صافية وكلها مشتقات من صافيناز وهي بحق صافية !! صافية بحق ليست فى بشرتها البرونزية أية تعكرات، عيناها كالمساء الصافية فى صبيحة يوم هادئ وهانئ .. وأنفها الخنسائي مكتوب على جانبيه حكايات لكثير من الشرفاء والمجاهدين وصناع التاريخ. "اللي له واسطة .. يأكل بسطه، واللى مالوش واسطة يقعد ع البسطة!! "
تغنت صافية بهذه الكلمات أكثر من مرة وهي تؤرجح قدميها وساقيها الناشفتين النحيلتين بعد أن أقعدها السائق على مقعده بجواره، بدأ الركاب يتأملونها راكباً تلو الأخر هذا القارئ المثقف، ألقي بجريدته ناظراً إياها.
وهذان الشابان اللذان يتجاذبان أطراف الحديث عن الانترنيت 2 والواقع الافتراضي وأن الإنسان يمكن أن يلبس خوذة وقفازاً بالكهرباء ويلمس شاشة الكمبيوتر ليجد نفسه وراء الشاشة يشارك مسرح الأحداث..!!
ومن يدري ربما يصبح هنا فى المستقبل انترنيت 3، 4.. وبكل الأرقام وعن السيارة التي تسير بدون سائق .. هذان الشابان لم يجذبهما حديثهما الشيق وراحا يصغيان إلى حديث الصافية ...!!
وحتي هذه الأم الحنون التي تجلس بالمقعد المجاور لي.. كفت عن مداعبة طفلتها الصغيرة لتتابع كلماتها وهي تعدد
" اللى تعمله يافقي، في البنية تلتقي "
وفجأة !!
أرتفع صوت تعديدها. امتزج بالصراخ والعويل وحركات شبه هيستيرية نظرت إلى أخي الطبيب. همست فى أذنه حتى لا يستيقظ طفلي النائم على صدري سألته "هل تعاني السيدة من مرض نفسي" هستيريا مثلاً أو شوزوفرينيا أو بارانويا ؟!!
ابتسم فى هدوء وأعرض برأسه. فهمت من صمته هذا أنها غير مريضة البتة وغاية ما في الأمر أن حيلتها كانت ضعيفة مثل القشة وربما كانت هناك ضغوطاً أقوى من إمكانياتها وقدراتها.
قال الراكب الثائر "أخرجوا هذه المجنونة من الأتوبيس وإلا..."
وقالت الراكبة الثرثارة "أحضروا لها الشرطة حتى ..."
* * *
مازال طيفك يمر أمامي يا أيتها الصافية الجميلة ويأسرني مثلما تأسرني زهرة البنفسج بحزنها وبهجتها. ومازال صوتك يطغي على حديث نفسي مثلما تفرض أغنية ما نفسها على بالي طول النهار وأكون سمعتها فى الصباح الباكر بإذاعة الشرق الأوسط أو بإذاعة الشباب والرياضة مثلاً. تنفست بعمق حيث ركاب الطائرة الآن منشغلون حولي بتناول العشاء. اسقطوا المناضد الملتصقة خلف المقاعد، وراحوا يطلبون المشروبات. دون حركة ونشاط من طاقم الطائرة غدواً ورواحاً. كانت المضيفة توزع ابتساماتها على الركاب مع أبريق الشاي المتنقل. كان الماء يتساقط معانقاً الأكواب البلاستيكية بكل هذا الحنو والهدوء، تماماً مثلما حدثها ضابط الشرطة في حنو وهدوء بعد أن صرخت فى وجهه.
قائلة: "ابعدوا عني يا ناس ..."
تودد الضابط متوسلاً إليها فى ترفق ...
"يالله معاى يا...
ولكنها كانت قد نهرته بشدة بيد خالية من أية مصوغات انا.."
* * *
أنهيت طعام العشاء مع أولادي. مسحت بالمنديل الورقي بقايا الأكل حول فم الصغير !!
بدأ طيف صافيناز يمحي من مخيلتي. أوشكت أن أمسحه نهائياً لولا مشهداً أخيراً مروعاً أوشكت أن أمسح بعض الحنان مع المنديل الذي أمسح به أصابع صغيرة لطفلي ولولا أن ذرات الأمومة في صدري يتوالى أنشاطرها واتحادها دوماً لشرب الطفل مع العصير الذي يتناوله الآن المخاوف بدلاً من الأمان والغفلة بدلاً من الاهتمام!!
جالت بخاطري الأشياء التي يمكن أن تغير من كيمياء الحب وكيمياء العطاء وتخمد سيمفونية الرباط الجميل بين البرتونات والإلكترونيات الدوارة حول النوة داخل ذرات الأمومة الخالدة. وهزني الخاطر كما اهتزت وارتجفت الصافية حين جاء الحشد الكبير من رجال الشرطة ليحملونها بعد أن نزل كل الركاب ووقفوا على أسفلت الطريق، حيث شمس الظهيرة لم تزل تلهب أفكارهم ليشهدوا لها منظرا أخيراً وهي تصرخ وتعافر وهم يكتفونها ويسكتونها ويزجون بها فى تلك العربة الصغيرة ...
وتقطعت صورتها من خيالي مع تقطعات وارتجافات الطائرة حين الهبوط. تيقظ صغيري الذي أخلد إلى النوم وجاء الصوت من الميكروفون "حمد الله على سلامتكم.
دقائق قليلة وتهبط الطائرة إلى ميناء السيب الدولي درجة الحرارة الآن فى مسقط 52 درجة مئوية"
قمت. حملت الحقائب. لملمت الأشياء المبعثرة. طويت الورقة البيضاء .. أراها الآن وقد اكتظت بالكتابة، ولم يعد هناك ثمة مساحة صغيرة للكتابة ...
بيع البيض .. و .. و أد الدجاجات
ما الذي تحاوطيئه بيدك؟
... .... ....
توقف عند السؤال النداء!!
الحواس كلها تسمع – ترجف – ينبعث اللهيب من احمرار الأذنين. الحواس كلها تري تكاد تلتفت! لا تلتفت. تتسمر فى المكان، المكان فضاء ينوء بصرير الباب !!
تسكته "أم ربيع " و.. تنطلق لأصوات النبش والصياح تصغي .. تلتهم الرائحة التي تحبها. تنتشى تكاد ترق طرباً مع دجاجاتها. ثانياً يأتي صوت السؤال النداء!!
" ما الذي تحاوطينه بيديك، تحاولين أخفاءه!!
تتوقف ثانياً. تخشي أن تصطك الكرات البيضاء وتتهشم القشرات الجميلة، ترخي الثوب...
تنحني قليلاً، يتسع محيط الحجر تطمئن روحها وتقول:-
" أنه البيض .. بيض .. الدجاجات ..."
تتهدل طرحتها السوداء. تفصح حبات الترتر البيضاء عن عدد لأشياء أخريات بيضاء .. تهرع إلى العلبة الصفيح القديمة المرسوم عليها نخلتان باللون الأخضر،
تسير على أطراف الأصابع، برفق ترص البيضات .. تبقي بيضة واحدة أو أثنتين تمسك أطراف الثوب. تعبر إشارة الخوف. تمر مثل الطيف!
ينفخ " أبو ربيع" : إلى أين؟
ترتعش الأواني المعدنية هاربة من بين يديها. يضيع بينها صوتها
إلى المقلاة !!
( أقلي لك البيض ..) يدير الرجل رأسه للوراء يتنهد.
يزوم:
أحب لحم الدجاج !!
أكره أن تبيض !
فى الشروق .. وفي كل شروق تراقب الأفراخ أم ربيع هذا الخروج. يخرج أو ربيع. يتشرى بعضا من الحاجات يتقاهى مع الرفاق. تسحب أم ربيع العلبة الصفيح القديمة، تحملها برفق. تحتضنها، تحاوطها بطرحتها السوداء. تصعد سلمات ثلاث. تدق الجرس دقات ثلاث .. بيمناها تسلم باقي البيضات وبيسرها تقبض بعض الجنيهات!
.. إلى بابها تصعد سريعاً، تفتحه تدخل. تصر بمنديلها الأوراق الثمينة. تربط المنديل بإحكام.
... ... ...
فى الأمسيات !!
تستقبل أم ربيع زوجها ببشاشة . تهلل لقدومه. تضع له كوب الشاى كما يحب، تقدم له أقراص البيض المقلي المخلوط بالدقيق. تبتسم في وجهه !!
هل أحضرت طعام الدجاج !!
يقطب حاجبيه ويزوم: - نعم أحضرت !
تأخذ من بين يديه الطعام. ترميه بنظرة حانية، تشع من أسفل المنديل الجديد على عينى أبى ربيع، تبتسم يتأمل ألوان ثيابها يلمح أقراط الذهب المدلاة من أذنيها .. يسأل نفسه، يطرد التساؤلات سريعاً ... فطالما زوجته متجددة وناضرة .. فلا داعي أن يسأل.
... ... ...
فى الغروب وفي كل غروب !!
وبعد رحيل ربيع ... وانحسار الحجرتين عليهما !!
يترقب أبو ربيع خروج زوجته يسحب العلبة الصفيح القديمة المرسوم عليها النخلتين ... يدفعها ناحيته بقوة يحصى أزواج الكرات البيضاء زوج ... زوجين ... ثلاثة أزواج. أربعة ... يباعدها عنه. يعيدها إلى موضعها .. في كل غروب جديد ... تتغير شكل الكرات وحجمها!!
يسراه مستنده إلى أسفل ذقنه ..، يتساءل " لماذا تتغير كرات البيض" ؟
أبو ربيع يدخل كالمذعور إلى عش الدجاجات ... يسمح عرقه النابت بجبينه. يخاطبها فى الحظائر .. "أيتها الدجاجات اللعينة ... أيتها العدو اللدود من مالي.."
ينقض على واحدة. تطير باقي الدجاجات. يمسكها ويلفها بيديه ... يواصل خطابه لها" .. أيتها الدجاجات اللعينة .. من مالي تأكلين وتكبرين ... من بيضك يتآمر علي " تزعق الدجاجات .. يعلو الصياح .. يسد أبو ربيع الأفواه تهرول إليه أم ربيع، الي لم تعد تطلب من أيامها شيئاً سوي أن يرحم الدجاجات".
نشرت فى مجلة المنتدى
مايو1993م
ما الذي تحاوطيئه بيدك؟
... .... ....
توقف عند السؤال النداء!!
الحواس كلها تسمع – ترجف – ينبعث اللهيب من احمرار الأذنين. الحواس كلها تري تكاد تلتفت! لا تلتفت. تتسمر فى المكان، المكان فضاء ينوء بصرير الباب !!
تسكته "أم ربيع " و.. تنطلق لأصوات النبش والصياح تصغي .. تلتهم الرائحة التي تحبها. تنتشى تكاد ترق طرباً مع دجاجاتها. ثانياً يأتي صوت السؤال النداء!!
" ما الذي تحاوطينه بيديك، تحاولين أخفاءه!!
تتوقف ثانياً. تخشي أن تصطك الكرات البيضاء وتتهشم القشرات الجميلة، ترخي الثوب...
تنحني قليلاً، يتسع محيط الحجر تطمئن روحها وتقول:-
" أنه البيض .. بيض .. الدجاجات ..."
تتهدل طرحتها السوداء. تفصح حبات الترتر البيضاء عن عدد لأشياء أخريات بيضاء .. تهرع إلى العلبة الصفيح القديمة المرسوم عليها نخلتان باللون الأخضر،
تسير على أطراف الأصابع، برفق ترص البيضات .. تبقي بيضة واحدة أو أثنتين تمسك أطراف الثوب. تعبر إشارة الخوف. تمر مثل الطيف!
ينفخ " أبو ربيع" : إلى أين؟
ترتعش الأواني المعدنية هاربة من بين يديها. يضيع بينها صوتها
إلى المقلاة !!
( أقلي لك البيض ..) يدير الرجل رأسه للوراء يتنهد.
يزوم:
أحب لحم الدجاج !!
أكره أن تبيض !
فى الشروق .. وفي كل شروق تراقب الأفراخ أم ربيع هذا الخروج. يخرج أو ربيع. يتشرى بعضا من الحاجات يتقاهى مع الرفاق. تسحب أم ربيع العلبة الصفيح القديمة، تحملها برفق. تحتضنها، تحاوطها بطرحتها السوداء. تصعد سلمات ثلاث. تدق الجرس دقات ثلاث .. بيمناها تسلم باقي البيضات وبيسرها تقبض بعض الجنيهات!
.. إلى بابها تصعد سريعاً، تفتحه تدخل. تصر بمنديلها الأوراق الثمينة. تربط المنديل بإحكام.
... ... ...
فى الأمسيات !!
تستقبل أم ربيع زوجها ببشاشة . تهلل لقدومه. تضع له كوب الشاى كما يحب، تقدم له أقراص البيض المقلي المخلوط بالدقيق. تبتسم في وجهه !!
هل أحضرت طعام الدجاج !!
يقطب حاجبيه ويزوم: - نعم أحضرت !
تأخذ من بين يديه الطعام. ترميه بنظرة حانية، تشع من أسفل المنديل الجديد على عينى أبى ربيع، تبتسم يتأمل ألوان ثيابها يلمح أقراط الذهب المدلاة من أذنيها .. يسأل نفسه، يطرد التساؤلات سريعاً ... فطالما زوجته متجددة وناضرة .. فلا داعي أن يسأل.
... ... ...
فى الغروب وفي كل غروب !!
وبعد رحيل ربيع ... وانحسار الحجرتين عليهما !!
يترقب أبو ربيع خروج زوجته يسحب العلبة الصفيح القديمة المرسوم عليها النخلتين ... يدفعها ناحيته بقوة يحصى أزواج الكرات البيضاء زوج ... زوجين ... ثلاثة أزواج. أربعة ... يباعدها عنه. يعيدها إلى موضعها .. في كل غروب جديد ... تتغير شكل الكرات وحجمها!!
يسراه مستنده إلى أسفل ذقنه ..، يتساءل " لماذا تتغير كرات البيض" ؟
أبو ربيع يدخل كالمذعور إلى عش الدجاجات ... يسمح عرقه النابت بجبينه. يخاطبها فى الحظائر .. "أيتها الدجاجات اللعينة ... أيتها العدو اللدود من مالي.."
ينقض على واحدة. تطير باقي الدجاجات. يمسكها ويلفها بيديه ... يواصل خطابه لها" .. أيتها الدجاجات اللعينة .. من مالي تأكلين وتكبرين ... من بيضك يتآمر علي " تزعق الدجاجات .. يعلو الصياح .. يسد أبو ربيع الأفواه تهرول إليه أم ربيع، الي لم تعد تطلب من أيامها شيئاً سوي أن يرحم الدجاجات".
نشرت فى مجلة المنتدى
مايو1993م
الجريدة المشربية
عيناها مستيقظة بارقة.
العناوين على الجريدة نائمة، غير ناطقة.
الجريدة مشربية، والعينان تتلصصان
وراءها على هذا البعيد.
هل يكون هو .. أم شبيها له
والاقتراح المؤكد. نترك المكان.
* * *
هل يكون هو؟ ... مستحيل يكون هو.. لقد كان، فى نفس اللحظة هناك...، فى حجرته هناك..، تطل عيدان القش والحطب من شباكها.. هناك يجلس. قامته الطويلة محنية، منكبا على الأوراق القديمة السميكة، بينما الأوراق الجديدة الرقيقة فى يدها، هنا !! تحملها وقد انتهي المهرجان الأدبي.
فى البدء كانوا صحبة من الزملاء، وكانت معهم جموع التفت حول المقاعد، وشيئاً فشيئاً انصرف، وتبقي زميل واحد .. شيئاً فشيئاً هدأ الضجيج فى النادي، وبدأ السكون يتسلل وينشر رائحته على كل الأركان، رائحة جعلت النقاش الحاد تحول إلى همس، والحوار يتحول إلى وشوشة، والكلام عن الإبداع يتحول إلى أبداع ... والسؤال الواحد يتعدد إلى أسئلة .. تراه هو .. هل يكون هو؟ ..لا، نعم، .. هو .. القامة المحنية، نفس لون الجاكيت الرمادي ... نفس لون الكوفية .. خطوته .. آه لو يخطو .. خطوة واحدة تجعلها تهدأ وتستقر نظراتها .. فعيناها مازالت تروح وتجئ إلى الجانب الأيسر واقفاً هو لم يزل، .. وقلبها كاد أن يترقف .. تأمره يدق. يدق. تزداد ضرباته. تسكتها فيصمت، ويعود السكون وتنسحق الكلمات إلى لفتات. والسؤال يتقطر.
- همومك : مصرية و ..
- همومك : الانسان.
- والنقاش يدور.
والهموم الأولي لها تتضاءل أمام الهموم الثانية عنده.. همومها هي، ملامح ريفية تغزو العاصمة، جناحان يطيران من هواء الشجر الريفي إلى هواء الفاترينات، قلب تمرد على الصفحات ولاذ بالسفر.!
تحركت على المقعد. قاربت أجزاء البالطو الهامدة. اشتملت به كتفها النحيل شابكت خمس أصابع، وبسرعة، فكت التشابك، عادت تتأمل. ارتابه شيء دفين:-
ما بك ؟!
رفعت رأسها إلى أعلى. جذبت نفسا عميقاً .. آه..
فى داخلي كيان جديد. هل يولد هذه اللحظة؟
القي بيمناه جريدته على المنضدة. ابتسم..
"حسن" .. سوف تقرأ لك ابداعا جديدا .. بعمق تنهدت..
برفق تناولت الجريدة. بدأت تقلب أوراقها. شعرت بأنه يخطو، فى لحظة انتقل بصرها، تتأكد أنه هو .. هل يكون هو أم شبيها له؟!!
من بين السطور فى الجريدة تخطف نظرات إلى الركن الأيسر من النادي .. كان هو آخذ فى التحرك والسير ناحية الباب .. نفس خطواته الهادئة المثقلة بهموم التأمل. انتفضت راحت بأصابع مرتعشة تحتسي فنجان القهوة الساخن وضعت الفنجان. ارتعش الطبق. انسكب جزءاً على الأرض، رفعت الجريدة إلى رأسها. حركتها بيسراها صعوداً وهبوطاً. خفق قلبها فترفعها.
يهدأ قلبها، فتخفضها، تراه يقدم ناحيتها .. أم يبتعد عنها .. آه .. ليته يفعل وبسرعة يخرج نهائياً من النادي أو يقترب منها ويحدث ما حدث .. ومهما حدث فهي زميله، يجاورها زميل، والكلمات تسافر من عقله إلى عقلها..
الأجمل أن تبحث عن مكان هادئ !!
تعجب لها، راح يحتسى قهوته، يراقب يدها، .. السيجار بين الأصابع لم يكتمل بعد أطفأته رعشة ثلاث أصابع .. مسامعه تألمت على صوت نبش أظافرها..
قبل ان يسألها تمتم وتعلل..
- " فى المرحلة الجنينة لا بداعي دائماً أفضل شيئاً عند رأسي"
ضاحكا لها..
- فلنكمل النقاش في ... و ...
قاطعته فى حماس ..
- " حقا .. المجتمع .. الوعي .. الـ ...."
بدأت السخونة تخرج الكلمات معها حارة وخافتة ..، واللون الرمادي يغلبه السواد ويزيد السخونة ..، والالتفات المستمر إلى الركن الأيسر يزيدها خنقاً .. تراه هو .. أم شبيها له .. شيئاً واحدا فقط كان يبرد الكلمات ويخرجها من خنقتها .. الجريدة اذ توارب بها النافذة عينيها .. الجريدة المثقبة بارتعاشات الأصابع .. الجريدة مشربية والعينان تتلصصان والاقتراح المفاجئ المؤكد يبدأ..
لنترك المكان
فلنترك المكان
عيناها مستيقظة بارقة.
العناوين على الجريدة نائمة، غير ناطقة.
الجريدة مشربية، والعينان تتلصصان
وراءها على هذا البعيد.
هل يكون هو .. أم شبيها له
والاقتراح المؤكد. نترك المكان.
* * *
هل يكون هو؟ ... مستحيل يكون هو.. لقد كان، فى نفس اللحظة هناك...، فى حجرته هناك..، تطل عيدان القش والحطب من شباكها.. هناك يجلس. قامته الطويلة محنية، منكبا على الأوراق القديمة السميكة، بينما الأوراق الجديدة الرقيقة فى يدها، هنا !! تحملها وقد انتهي المهرجان الأدبي.
فى البدء كانوا صحبة من الزملاء، وكانت معهم جموع التفت حول المقاعد، وشيئاً فشيئاً انصرف، وتبقي زميل واحد .. شيئاً فشيئاً هدأ الضجيج فى النادي، وبدأ السكون يتسلل وينشر رائحته على كل الأركان، رائحة جعلت النقاش الحاد تحول إلى همس، والحوار يتحول إلى وشوشة، والكلام عن الإبداع يتحول إلى أبداع ... والسؤال الواحد يتعدد إلى أسئلة .. تراه هو .. هل يكون هو؟ ..لا، نعم، .. هو .. القامة المحنية، نفس لون الجاكيت الرمادي ... نفس لون الكوفية .. خطوته .. آه لو يخطو .. خطوة واحدة تجعلها تهدأ وتستقر نظراتها .. فعيناها مازالت تروح وتجئ إلى الجانب الأيسر واقفاً هو لم يزل، .. وقلبها كاد أن يترقف .. تأمره يدق. يدق. تزداد ضرباته. تسكتها فيصمت، ويعود السكون وتنسحق الكلمات إلى لفتات. والسؤال يتقطر.
- همومك : مصرية و ..
- همومك : الانسان.
- والنقاش يدور.
والهموم الأولي لها تتضاءل أمام الهموم الثانية عنده.. همومها هي، ملامح ريفية تغزو العاصمة، جناحان يطيران من هواء الشجر الريفي إلى هواء الفاترينات، قلب تمرد على الصفحات ولاذ بالسفر.!
تحركت على المقعد. قاربت أجزاء البالطو الهامدة. اشتملت به كتفها النحيل شابكت خمس أصابع، وبسرعة، فكت التشابك، عادت تتأمل. ارتابه شيء دفين:-
ما بك ؟!
رفعت رأسها إلى أعلى. جذبت نفسا عميقاً .. آه..
فى داخلي كيان جديد. هل يولد هذه اللحظة؟
القي بيمناه جريدته على المنضدة. ابتسم..
"حسن" .. سوف تقرأ لك ابداعا جديدا .. بعمق تنهدت..
برفق تناولت الجريدة. بدأت تقلب أوراقها. شعرت بأنه يخطو، فى لحظة انتقل بصرها، تتأكد أنه هو .. هل يكون هو أم شبيها له؟!!
من بين السطور فى الجريدة تخطف نظرات إلى الركن الأيسر من النادي .. كان هو آخذ فى التحرك والسير ناحية الباب .. نفس خطواته الهادئة المثقلة بهموم التأمل. انتفضت راحت بأصابع مرتعشة تحتسي فنجان القهوة الساخن وضعت الفنجان. ارتعش الطبق. انسكب جزءاً على الأرض، رفعت الجريدة إلى رأسها. حركتها بيسراها صعوداً وهبوطاً. خفق قلبها فترفعها.
يهدأ قلبها، فتخفضها، تراه يقدم ناحيتها .. أم يبتعد عنها .. آه .. ليته يفعل وبسرعة يخرج نهائياً من النادي أو يقترب منها ويحدث ما حدث .. ومهما حدث فهي زميله، يجاورها زميل، والكلمات تسافر من عقله إلى عقلها..
الأجمل أن تبحث عن مكان هادئ !!
تعجب لها، راح يحتسى قهوته، يراقب يدها، .. السيجار بين الأصابع لم يكتمل بعد أطفأته رعشة ثلاث أصابع .. مسامعه تألمت على صوت نبش أظافرها..
قبل ان يسألها تمتم وتعلل..
- " فى المرحلة الجنينة لا بداعي دائماً أفضل شيئاً عند رأسي"
ضاحكا لها..
- فلنكمل النقاش في ... و ...
قاطعته فى حماس ..
- " حقا .. المجتمع .. الوعي .. الـ ...."
بدأت السخونة تخرج الكلمات معها حارة وخافتة ..، واللون الرمادي يغلبه السواد ويزيد السخونة ..، والالتفات المستمر إلى الركن الأيسر يزيدها خنقاً .. تراه هو .. أم شبيها له .. شيئاً واحدا فقط كان يبرد الكلمات ويخرجها من خنقتها .. الجريدة اذ توارب بها النافذة عينيها .. الجريدة المثقبة بارتعاشات الأصابع .. الجريدة مشربية والعينان تتلصصان والاقتراح المفاجئ المؤكد يبدأ..
لنترك المكان
فلنترك المكان
خارج المكان.
كانت اسراءات الروح تعلو وتعلو.
خارج المكان.
كانت تنطلق.
جناحان يطيران من هواء الفاتيرينات إلى هواء الشجر العاصمي.
تنساب من الفرحة الكلمات أبداً لم يكن هو.
نشرت فى جريدة الوطن بسلطنة عمان
الملتقى الأدبى – 2/9/1991م
كانت اسراءات الروح تعلو وتعلو.
خارج المكان.
كانت تنطلق.
جناحان يطيران من هواء الفاتيرينات إلى هواء الشجر العاصمي.
تنساب من الفرحة الكلمات أبداً لم يكن هو.
نشرت فى جريدة الوطن بسلطنة عمان
الملتقى الأدبى – 2/9/1991م
شباك المسقط
بيد مرتعشة تدق المسمار. فى بساطة وبراءة تدق المسمار. فى غيظ تدق. فى فرح تدق. ينزلق من قبضتيها الدقيقتين تدق. يفر من أصبعين رفيعتين، وتدق الطفلة الصغيرة، والمسمار والدق فى شباك المسقط.
كانت تقف. تشب بقدميها الصغيرتين. ترتفع قليلاً عن إسفنج المقعد. ترفع ذراعيها تبدأ بدق الجزء الأسفل للشباك تجرب الوقوف على المسند، تثني ركبتها. يقع المسند، تقع بعده الطفلة.
تجعل المسند مسطحاً. ترص فوقه مسنداً آخر وآخر.
يستقر الجبل الصغير الذي صنعته والذي يكون فى كل مرة مهدداً بالسقوط.
ترفع ذيل فستانها فى تؤدة. تصعد, توالي الدق فى الجزء الأوسط للشباك .....
فى كل مرة، لا تساعدها قامتها الضئيلة للوصول إلى أعلى الشباك ........
فى كل مرة، تبحث من جديد، عن شيء تحمله غير اليد المعدنية ......
فى كل مرة البحث لا يطول..!!
ببطء تحمل يد الهون القديمة، تمسكها من جزئها الرفيع. القاعدة الدائرية المعدنية أحدثت ألما بصدرها الضعيف، أرادت البكاء. درا فى رأسها بعض من الأفكار دار فوق الخشب طرق المسمار. غمغمت بكلمات .. ظهر منها (ورقي .. كتبي .. أشيائي..)
فى هذه المرة، خانتها الحافة المدببة للمسمار، تحركت بعنف. اخترقت باطن سبابة يدها اليسرى، واليد اليمني مازالت تدق، والقلب تحت الملابس لم يزل يدق.
* * *
....... فى عينيها اختفت دمعة، لا تريد أن يلمحها.
....... فى أعماقها دفنت صرخة, لا تريد أن يسمعها.
....... خشيت أن يأتي، بغضبه يأتي، بقدمه يأتي.
أخوها الأكبر ..، يدوس حقيبتها المدرسية، ينزع. يبعثر. يرمي خارج الشباك كتبها وأوراقها، وبعضاً من أشيائها.
بيد مرتعشة تدق المسمار. فى بساطة وبراءة تدق المسمار. فى غيظ تدق. فى فرح تدق. ينزلق من قبضتيها الدقيقتين تدق. يفر من أصبعين رفيعتين، وتدق الطفلة الصغيرة، والمسمار والدق فى شباك المسقط.
كانت تقف. تشب بقدميها الصغيرتين. ترتفع قليلاً عن إسفنج المقعد. ترفع ذراعيها تبدأ بدق الجزء الأسفل للشباك تجرب الوقوف على المسند، تثني ركبتها. يقع المسند، تقع بعده الطفلة.
تجعل المسند مسطحاً. ترص فوقه مسنداً آخر وآخر.
يستقر الجبل الصغير الذي صنعته والذي يكون فى كل مرة مهدداً بالسقوط.
ترفع ذيل فستانها فى تؤدة. تصعد, توالي الدق فى الجزء الأوسط للشباك .....
فى كل مرة، لا تساعدها قامتها الضئيلة للوصول إلى أعلى الشباك ........
فى كل مرة، تبحث من جديد، عن شيء تحمله غير اليد المعدنية ......
فى كل مرة البحث لا يطول..!!
ببطء تحمل يد الهون القديمة، تمسكها من جزئها الرفيع. القاعدة الدائرية المعدنية أحدثت ألما بصدرها الضعيف، أرادت البكاء. درا فى رأسها بعض من الأفكار دار فوق الخشب طرق المسمار. غمغمت بكلمات .. ظهر منها (ورقي .. كتبي .. أشيائي..)
فى هذه المرة، خانتها الحافة المدببة للمسمار، تحركت بعنف. اخترقت باطن سبابة يدها اليسرى، واليد اليمني مازالت تدق، والقلب تحت الملابس لم يزل يدق.
* * *
....... فى عينيها اختفت دمعة، لا تريد أن يلمحها.
....... فى أعماقها دفنت صرخة, لا تريد أن يسمعها.
....... خشيت أن يأتي، بغضبه يأتي، بقدمه يأتي.
أخوها الأكبر ..، يدوس حقيبتها المدرسية، ينزع. يبعثر. يرمي خارج الشباك كتبها وأوراقها، وبعضاً من أشيائها.
الرحلة الهوائية
جذبت نفسا عميقا. تستنشق الحياة .. والمرح .. والنزق الطفولي !!
عندما كانت تجلس على القطعة الجلدية السوداء السميكة، ويداها مرفوعتان، متشبثتان بالمقابض الحديدية، وقدماها للفضاء أقصي ما يمكن !!
فتزيح الجمود والوجوم والحبس المنزلي !!
وفي الهبوط، تثنيهما، تجذبهما أقصي ما يمكن، فتضم الحنين، والصحاب وأغنيات العصافير !!
تبعثرت نظراتها، شملت أرجاء المكان!
تعيد رحلة التعب اللذيذ، واللعب بالحصان الجلدي، وبالطائرة الخشبية وبسلم التزحلق!!
تجمعت نظراتها. سقطت كسهم الفرح الجديد. ثقبت بها ثوب رفيقتها الأخضر المنمق بورقات الشجر، نفذت النظرات إلى قلبها أيقظتها من نومها، بجوار عامود الأرجوحة !!
ولأنها فى هذه المرة، تفترق عن رفيقتها الدائمة، والتي تلازمها منذ لحظة تفتيح العينين. تداعبها. تحتضنها. تعيد تنسيق ضفائر شعرها، متعثرة بالخيوط، وتصنع لها ملابس من قطع القماش وأحيانا تأخذ من طعام طبقها، وتقربه من فمها الصغير!!
حتى لحظة تغميض العينين، تضمها إليها، تحاورها. تخلع حذائها البلاستيكي. تقربها إلى صدرها حتي تنام، وتعيش الطفلة مع دميتها أحلى الأحلام!!
حدقت وهي لم تزل فى رحلتها الهوائية، بعيون متوثبة، وقلب مترع بالحماس، وبنظرة دائرية، أحاطت مشوار الالتصاق الجميل منذ أول جزء بالحديقة، عندما صعدت على الحصان الخشبي، وكانت دميتها بين يديها .. وعندما تربعت واحتضنت الطائرة الخشبية وكانت أيضاً معها..
وحتي حينما صعدت على السلم الخشبي للتزحلق، وتدحرجت، وانقلبت وانكفأت على وجهها كانت لم تزل فى حزوتها!!
راحت الطفلة ترمي دميتها، من أعلى الأرجوحة، بنظرة تلو الأخرى ... آملة فى كل صعود أن تشبكها بين يدها لتعلو تماما وتنتشي مثلها، وآملة فى كل هبوط أن تحيطها وتضمها!!
توقفت عن متعتها الهوائية، قفزت مرة واحدة. وثبتت على الأرض. أخذت خطوة، وخطوتين جاورت عامود الأرجوحة. قبضت على دميتها بحنان. قبلتها .. سارت بها نحو القطعة الجلدية السوداء السميكة. أجلستها.
سعدت الطفلة بالدمية. تبادلت معها الحديث، ويداها مرفوعتان متشبثتان بالمقابض الحديدية، وقدماها .. فى الصعود تفردهما وتمدهما للفضاء أقصي ما يمكن !!
فتزيح الجمود والوجوم والحبس المنزلي ..
وفي الهبوط تثنيهما، تجذبهما أقصي ما يمكن فتضم الحنين والصحاب، وأغنيات العصافير.
جذبت نفسا عميقا. تستنشق الحياة .. والمرح .. والنزق الطفولي !!
عندما كانت تجلس على القطعة الجلدية السوداء السميكة، ويداها مرفوعتان، متشبثتان بالمقابض الحديدية، وقدماها للفضاء أقصي ما يمكن !!
فتزيح الجمود والوجوم والحبس المنزلي !!
وفي الهبوط، تثنيهما، تجذبهما أقصي ما يمكن، فتضم الحنين، والصحاب وأغنيات العصافير !!
تبعثرت نظراتها، شملت أرجاء المكان!
تعيد رحلة التعب اللذيذ، واللعب بالحصان الجلدي، وبالطائرة الخشبية وبسلم التزحلق!!
تجمعت نظراتها. سقطت كسهم الفرح الجديد. ثقبت بها ثوب رفيقتها الأخضر المنمق بورقات الشجر، نفذت النظرات إلى قلبها أيقظتها من نومها، بجوار عامود الأرجوحة !!
ولأنها فى هذه المرة، تفترق عن رفيقتها الدائمة، والتي تلازمها منذ لحظة تفتيح العينين. تداعبها. تحتضنها. تعيد تنسيق ضفائر شعرها، متعثرة بالخيوط، وتصنع لها ملابس من قطع القماش وأحيانا تأخذ من طعام طبقها، وتقربه من فمها الصغير!!
حتى لحظة تغميض العينين، تضمها إليها، تحاورها. تخلع حذائها البلاستيكي. تقربها إلى صدرها حتي تنام، وتعيش الطفلة مع دميتها أحلى الأحلام!!
حدقت وهي لم تزل فى رحلتها الهوائية، بعيون متوثبة، وقلب مترع بالحماس، وبنظرة دائرية، أحاطت مشوار الالتصاق الجميل منذ أول جزء بالحديقة، عندما صعدت على الحصان الخشبي، وكانت دميتها بين يديها .. وعندما تربعت واحتضنت الطائرة الخشبية وكانت أيضاً معها..
وحتي حينما صعدت على السلم الخشبي للتزحلق، وتدحرجت، وانقلبت وانكفأت على وجهها كانت لم تزل فى حزوتها!!
راحت الطفلة ترمي دميتها، من أعلى الأرجوحة، بنظرة تلو الأخرى ... آملة فى كل صعود أن تشبكها بين يدها لتعلو تماما وتنتشي مثلها، وآملة فى كل هبوط أن تحيطها وتضمها!!
توقفت عن متعتها الهوائية، قفزت مرة واحدة. وثبتت على الأرض. أخذت خطوة، وخطوتين جاورت عامود الأرجوحة. قبضت على دميتها بحنان. قبلتها .. سارت بها نحو القطعة الجلدية السوداء السميكة. أجلستها.
سعدت الطفلة بالدمية. تبادلت معها الحديث، ويداها مرفوعتان متشبثتان بالمقابض الحديدية، وقدماها .. فى الصعود تفردهما وتمدهما للفضاء أقصي ما يمكن !!
فتزيح الجمود والوجوم والحبس المنزلي ..
وفي الهبوط تثنيهما، تجذبهما أقصي ما يمكن فتضم الحنين والصحاب، وأغنيات العصافير.
نزق
انتعشت تلك البقعة الترابية ابتهلت بقدوم الساقي لها رقصت..
تفتحت مسامها لاستقبال الماء.
ارتفعت عيدان القطن. أطمأنت مجموعة عيدان القطن إلى موضعها. تشابكت اجزاؤها القطنية فى عناق دائم، حتى حين اسقط ((المنجد)) عليها آلته الضاربة .. وتطايرت منها الهوام كانت لم تزل فى عناق.
فرحت أجزاء ماكينة الغزل، عندما خرجت منها الهوام لتستخلص القطن والقماش، وفرح القماش حين استحال إلى ملاءة بيضاء جميلة منقوشة بالخيوط الحريرية الملونة.
تألقت بقايا القطن حين استحالت إلى وسادة وعانقت فى ألتو ثوبها المنقوش بالخيوط الحريرية الملونة.
لم تفرح الوسادة حين لسعتها الحرارة المنبعثة من رأس آدم الذي لم يأنس لتألفها وانسجامها وزركشة ثيابها.
بكت الوسادة (!!)
نزفت قطنا وحريراً، حين جري مقص آدم الحامي فى جسدها، وقلبها، وسمعها، وبصرها (!!)
من منتصفها، تجزأت الوسادة إلى نصفين، كل فى ضمير.
نشرت فى جريدة عمان
انتعشت تلك البقعة الترابية ابتهلت بقدوم الساقي لها رقصت..
تفتحت مسامها لاستقبال الماء.
ارتفعت عيدان القطن. أطمأنت مجموعة عيدان القطن إلى موضعها. تشابكت اجزاؤها القطنية فى عناق دائم، حتى حين اسقط ((المنجد)) عليها آلته الضاربة .. وتطايرت منها الهوام كانت لم تزل فى عناق.
فرحت أجزاء ماكينة الغزل، عندما خرجت منها الهوام لتستخلص القطن والقماش، وفرح القماش حين استحال إلى ملاءة بيضاء جميلة منقوشة بالخيوط الحريرية الملونة.
تألقت بقايا القطن حين استحالت إلى وسادة وعانقت فى ألتو ثوبها المنقوش بالخيوط الحريرية الملونة.
لم تفرح الوسادة حين لسعتها الحرارة المنبعثة من رأس آدم الذي لم يأنس لتألفها وانسجامها وزركشة ثيابها.
بكت الوسادة (!!)
نزفت قطنا وحريراً، حين جري مقص آدم الحامي فى جسدها، وقلبها، وسمعها، وبصرها (!!)
من منتصفها، تجزأت الوسادة إلى نصفين، كل فى ضمير.
نشرت فى جريدة عمان
ســـــفـــــــــــــر
كنت أحاول أن أجد لي مكانا لقبض راتبي الشهري في العمل..!!
شعرت بها فوق رأسي.. وعن يميني ويساري تحوم حولي ألحت علي.
غادرت المكان دون استلام راتبي غادرت هي الأخرى المكان.
أخذت مكاني بين راكبي الأتوبيس. أخرجت منديلي لأتخلص مما يتصبب على من العرق.
وجدتها تتذمر فى غدو ورواح. يعلو طنينها فى احتجاج كأنه مؤذن لثورة صوتية.
حائرة..
بجناحيها تبحث عن ثقب للخروج.
توسطت الطابور الذي لا نهاية له. لقضاء وشراء بعض الأشياء .. راحت هي تلف الطابور ذهابا وإياباً، يتحرك جناحها الأيسر إلى أعلى وإلى أسفل، كأنه يزيح شيئاً ثقيلاً متعفرا.
جذبتني وشغلتني هذه الفراشة النافرة رحت أتتبعها بخطواتي ونظراتي إشفاقا عليها .. عزمت أن أهيئ لها مكانا تستطيع أن تقر فيه جذبت شالي، وبطرفة رحت أباعد ذرات التراب من فوق المقعد المريح الهادئ ليجمل للفراشة موضعا حيث الهدوء ودفء الشمس.
نظرت إليها. أقبلت نحوي. جلست على المقعد. لامست بأجنحتها المقعد.
ولست أدري لماذا غادرت المكان ولاذت الفراشة بالسفر.
نشرت فى جريدة عمان
كنت أحاول أن أجد لي مكانا لقبض راتبي الشهري في العمل..!!
شعرت بها فوق رأسي.. وعن يميني ويساري تحوم حولي ألحت علي.
غادرت المكان دون استلام راتبي غادرت هي الأخرى المكان.
أخذت مكاني بين راكبي الأتوبيس. أخرجت منديلي لأتخلص مما يتصبب على من العرق.
وجدتها تتذمر فى غدو ورواح. يعلو طنينها فى احتجاج كأنه مؤذن لثورة صوتية.
حائرة..
بجناحيها تبحث عن ثقب للخروج.
توسطت الطابور الذي لا نهاية له. لقضاء وشراء بعض الأشياء .. راحت هي تلف الطابور ذهابا وإياباً، يتحرك جناحها الأيسر إلى أعلى وإلى أسفل، كأنه يزيح شيئاً ثقيلاً متعفرا.
جذبتني وشغلتني هذه الفراشة النافرة رحت أتتبعها بخطواتي ونظراتي إشفاقا عليها .. عزمت أن أهيئ لها مكانا تستطيع أن تقر فيه جذبت شالي، وبطرفة رحت أباعد ذرات التراب من فوق المقعد المريح الهادئ ليجمل للفراشة موضعا حيث الهدوء ودفء الشمس.
نظرت إليها. أقبلت نحوي. جلست على المقعد. لامست بأجنحتها المقعد.
ولست أدري لماذا غادرت المكان ولاذت الفراشة بالسفر.
نشرت فى جريدة عمان
أنيـــــــاب الخــــــوف
أدرك الحيوان الصامت أن دوره جاء، لابد أن ينطق .. لابد أن ينبح "... عيناه كانتا تلاحقان كسرا من الأرغفة القديمة، أخضر لو نها ولحماً خرجت رائحته، بجانب الجدار...
وسيره كان موازياً للفتاتين .. هادئاً كان يسير، شارداً كان يسير. أدرك فجأة أنه لابد من التوقف، لابد أن يكسر التوازي ويتعامد فى المسير.
الرائحة تجذبه، والخطوة للأرجل الأربعة توقفه والخطوتان لأربعة أرجل تحركه، لحظة شاجرت لحظة نادت لحظة، لحظات من التوقف أربعة فقط أربعة. أندفع بعد اللحظة الأخيرة إلى التي تسير بجانب الخائفة.
* * *
الخائفة بجوار صديقتها في الحارة الضيقة، تسيران، والوقت الذي تغطس فيه شمس الأصيل، والبلدة ما بين نسيم القرية واستقبال ليل المدينة، حالمة شجية، عيونها نائمة، وأغانيها على شفاه الباعة والمتجولين نائمة، يوقظها صوت أقدام الخيول، صلصلة بطيئة لعربات الحنطور، والأرض مازالت بين الحالة الترابية والحالة الطميية، أديمها طري لم ينشف عليه حديث المطر الساقط والذي بدأ يقل تدريجيا، وينتهي تماماً ليبدأ صوت تقطير المياه من البلاعات والمواسير الصدئة.
عطَّر المطر الشارع العمومي برائحة فيها من الخبز ومن البكارة، لم يصل إلى الفتاتين شيء من تلك الرائحة حيث الحارة الضيقة لم تزل تغلب عليها رائحة القمامة.
الخائفة كانت ترتعد من البرودة، ملابسها خفيفة، لا تماثل ما ترتديه صديقتها، تحاول تدفئة أصابعها بنفسها، فتفشل، تصطك أسنانها، ينبعث صوت متقطع. يزداد الصوت كلما يمر الكلب الأسود بجوارها، تتدلي من فمه قطعة لحم نتنة الرائحة. ارتعشت. خفق قلبها. تمنت لو تجمع حولها عددٌ من البشر، تندس بينهم، فقد تفرقت الزميلات جميعهن، بعد انتهاء الدرس الخصوصي .. كل إلى منزله، ولم يتبق سوي صديقتها .... والتي تسير بجوارها، هادئة فى مشيتها تبتسم. تحرك حقيبتها فى الهواء. تتمايل. وتنظر إلى الخائفة وبلهجة ساخرة .........
خايفة من حتة كلب !!
تلبدت السحب. مرة أخرى. ساد الغيوم، مرة أخرى بدأت السماء تمطر .. بغزارة تمطر والدموع تمطر من عين الخائفة .. أرادت أن تسرع فى خطوتها وتشعر بالعجز. وضعت يمينها على ركبتها تحاول أن تنقلها فى بطء، وعينها تراقب الحيوان الذي يسير موازيا لها.
كلما يبتعد، تهدأ قليلاً. كلما يقترب ترتعد أكثر. تختبئ فى ثوب صديقتها .. صديقتها مازالت تهتز فى مشيتها، غير عابئة بدقات كعب حذائها المدبب المرتفع ....
- يا بنتي ولا يهمك.
تنظر الخائفة إلى صديقتها. تتمني أن يصلها ذرة هدوء وثبات، فهي صديقة الطفولة تلمس فيها دائماً ثباتها وصلابتها وتحسدها أحيانا ... تحاول أن تقلدها أحياناً، وتفشل .. الفشل أكيد هذه اللحظة.، حيث لا ثبات ولا هدوء والمصير المحتوم بجوارها يقترب، ويبتعد. يقبل، ويدبر. وفي كل خطوة يولد الأمل ويموت، ومع كل فلتة، ينزرع الخوف، وتقترب النهاية. الرهبة بداخلها تثمر رهبات كثيرة، تتبعثر إلى أنحاء الدنيا .. والدنيا تنكمش وتتضاءل وتنتهى عنده هذه البقعة من الأرض، الأرض التي تثاقلت عندها خطاها، بدأ المطر يعاندها ....
...........
هطل المطر بكثرة ... !!
الخائفة مازالت خائفة بكثرة !! .. دون أن تشعر، سقط منها قلم الرصاص، فلم تقو أن تعود إلى الوراء خطوة واحدة .. وصديقتها بجوارها، مازالت تبتسم. تضحك. ينبعث من ضحكتها رنين، .. أرسل الكلب على أثرها نظرة إلى الفتاتين، ظل يتتبعهما خطوة بخطوة .. يتابع حوارهما الصامت. وحديث الرعشات، وبعدها يتابع حديث الضحكات الرنانة ..، شعر الحيوان من الرعشات بخوف البنت ، ورقص ذيله .. وشعر من الضحكات بسخرية صديقتها ..، وبدأ يشك فى صدق الرعشات ويشك فى السعادة التي أحس بها أولا ... أراد أن يتأكد. فقط يتأكد من صحة خوفها .. فجأة أدرك أنه لابد أن يكسر التوازي ويتعامد فى المسير. اتجه ناحية الخائفة فى اللحظة الأولي. لحظة شاجرت لحظة، لحظة نادت لحظة، لحظات من التوقف أربع، فقط أربع. اندفع بعد اللحظة الأخيرة إلى صديقتها. مازال رنين ضحكتها فى أذنيه.
يتمني أن ينهش .. يتمني أن يعض ، ولا يزال هناك فى وسط الطريق يصر على أسنانه ، فى انتظار أن ينشب أنيابه فى قطعة من اللحم .
أدرك الحيوان الصامت أن دوره جاء، لابد أن ينطق .. لابد أن ينبح "... عيناه كانتا تلاحقان كسرا من الأرغفة القديمة، أخضر لو نها ولحماً خرجت رائحته، بجانب الجدار...
وسيره كان موازياً للفتاتين .. هادئاً كان يسير، شارداً كان يسير. أدرك فجأة أنه لابد من التوقف، لابد أن يكسر التوازي ويتعامد فى المسير.
الرائحة تجذبه، والخطوة للأرجل الأربعة توقفه والخطوتان لأربعة أرجل تحركه، لحظة شاجرت لحظة نادت لحظة، لحظات من التوقف أربعة فقط أربعة. أندفع بعد اللحظة الأخيرة إلى التي تسير بجانب الخائفة.
* * *
الخائفة بجوار صديقتها في الحارة الضيقة، تسيران، والوقت الذي تغطس فيه شمس الأصيل، والبلدة ما بين نسيم القرية واستقبال ليل المدينة، حالمة شجية، عيونها نائمة، وأغانيها على شفاه الباعة والمتجولين نائمة، يوقظها صوت أقدام الخيول، صلصلة بطيئة لعربات الحنطور، والأرض مازالت بين الحالة الترابية والحالة الطميية، أديمها طري لم ينشف عليه حديث المطر الساقط والذي بدأ يقل تدريجيا، وينتهي تماماً ليبدأ صوت تقطير المياه من البلاعات والمواسير الصدئة.
عطَّر المطر الشارع العمومي برائحة فيها من الخبز ومن البكارة، لم يصل إلى الفتاتين شيء من تلك الرائحة حيث الحارة الضيقة لم تزل تغلب عليها رائحة القمامة.
الخائفة كانت ترتعد من البرودة، ملابسها خفيفة، لا تماثل ما ترتديه صديقتها، تحاول تدفئة أصابعها بنفسها، فتفشل، تصطك أسنانها، ينبعث صوت متقطع. يزداد الصوت كلما يمر الكلب الأسود بجوارها، تتدلي من فمه قطعة لحم نتنة الرائحة. ارتعشت. خفق قلبها. تمنت لو تجمع حولها عددٌ من البشر، تندس بينهم، فقد تفرقت الزميلات جميعهن، بعد انتهاء الدرس الخصوصي .. كل إلى منزله، ولم يتبق سوي صديقتها .... والتي تسير بجوارها، هادئة فى مشيتها تبتسم. تحرك حقيبتها فى الهواء. تتمايل. وتنظر إلى الخائفة وبلهجة ساخرة .........
خايفة من حتة كلب !!
تلبدت السحب. مرة أخرى. ساد الغيوم، مرة أخرى بدأت السماء تمطر .. بغزارة تمطر والدموع تمطر من عين الخائفة .. أرادت أن تسرع فى خطوتها وتشعر بالعجز. وضعت يمينها على ركبتها تحاول أن تنقلها فى بطء، وعينها تراقب الحيوان الذي يسير موازيا لها.
كلما يبتعد، تهدأ قليلاً. كلما يقترب ترتعد أكثر. تختبئ فى ثوب صديقتها .. صديقتها مازالت تهتز فى مشيتها، غير عابئة بدقات كعب حذائها المدبب المرتفع ....
- يا بنتي ولا يهمك.
تنظر الخائفة إلى صديقتها. تتمني أن يصلها ذرة هدوء وثبات، فهي صديقة الطفولة تلمس فيها دائماً ثباتها وصلابتها وتحسدها أحيانا ... تحاول أن تقلدها أحياناً، وتفشل .. الفشل أكيد هذه اللحظة.، حيث لا ثبات ولا هدوء والمصير المحتوم بجوارها يقترب، ويبتعد. يقبل، ويدبر. وفي كل خطوة يولد الأمل ويموت، ومع كل فلتة، ينزرع الخوف، وتقترب النهاية. الرهبة بداخلها تثمر رهبات كثيرة، تتبعثر إلى أنحاء الدنيا .. والدنيا تنكمش وتتضاءل وتنتهى عنده هذه البقعة من الأرض، الأرض التي تثاقلت عندها خطاها، بدأ المطر يعاندها ....
...........
هطل المطر بكثرة ... !!
الخائفة مازالت خائفة بكثرة !! .. دون أن تشعر، سقط منها قلم الرصاص، فلم تقو أن تعود إلى الوراء خطوة واحدة .. وصديقتها بجوارها، مازالت تبتسم. تضحك. ينبعث من ضحكتها رنين، .. أرسل الكلب على أثرها نظرة إلى الفتاتين، ظل يتتبعهما خطوة بخطوة .. يتابع حوارهما الصامت. وحديث الرعشات، وبعدها يتابع حديث الضحكات الرنانة ..، شعر الحيوان من الرعشات بخوف البنت ، ورقص ذيله .. وشعر من الضحكات بسخرية صديقتها ..، وبدأ يشك فى صدق الرعشات ويشك فى السعادة التي أحس بها أولا ... أراد أن يتأكد. فقط يتأكد من صحة خوفها .. فجأة أدرك أنه لابد أن يكسر التوازي ويتعامد فى المسير. اتجه ناحية الخائفة فى اللحظة الأولي. لحظة شاجرت لحظة، لحظة نادت لحظة، لحظات من التوقف أربع، فقط أربع. اندفع بعد اللحظة الأخيرة إلى صديقتها. مازال رنين ضحكتها فى أذنيه.
يتمني أن ينهش .. يتمني أن يعض ، ولا يزال هناك فى وسط الطريق يصر على أسنانه ، فى انتظار أن ينشب أنيابه فى قطعة من اللحم .
صــــــدي المشــــاعــــر
ضحك النهار (!!)
بانت أساريره (!!)
رعشة .. يومية بدأت مع رعشة من يديها!
بدأ الشروق ممتدا لساعات طويلة، والمدينة كعروس تلف خجلها بزركشة الفجر!
رائحة عذرية تنطلق من وجنات الصبح فواحة، ندية!
ينتشر شذا العطر فوق أسطح المنازل وحول العربة البيضاء التي تحملها إلى مطار السيب. مستيقظ هو من سباته العميق، ويقظة هي أسفل شالها الحريري تتوسط طفلتيها النائمتين بالمقعد الخلفي !!
قالوا .. الساهرون على توثيق الأمتعة .. الحقائب فى السيارة الخلفية .. والطفلتان وأمهما في السيارة الأمامية، نسيمات الهواء الدافئ ناوشت قمم الجبال، فانبثق رذاذ خفيف رطب، على جانبي الطريق !!
... ...
قال بعد أن استدار للوراء بنبرات الصوت أولي الكلمات انسلت إلى مسامعها. باتت معها. تيقظت معها هناك !!
حمل الطفلين على كتفيه ومسح عرقه وربت على كتفيها !!..
السيارة تتخبط بهم جميعاً. يتوقف بالعربة عند الأكشاك الصغيرة،.. ليرمى بقطع النقود الفضية والورقية المدسوسة بورق أبيض أمام الأكشاك الصغيرة.
..
هي .. قابعة ناحية اليسار ومحروسة بشالها الحريرى ونظارتها الشمسية ( !! )
هي .. قابعة ناحية اليسار ومدهوشة، تأخذها الدهشة وتجري بأوصالها. تحاول أن تخفيها بطبطبات الأنامل على ظهري طفلتيها وهما عالقتان بكتفيها.
..
صرخت الطفلة الكبرى " لا " لا .. لن أدخل هذا البيت بيتي في مسقط .. بيتي فى مسقط"
..
صرحت الطفلة الصغرى .. تحك بأضافرها جلدها. تنتشر البثور سريعاً دائرية ملتهبة.
.. الأم المدهوشة منفعلة، تحاول إسكات الطفلتين
..
الدنيا سكوت !! إلا من الصوت المنبعث من حركة الملاعق القديمة والأكواب الزجاجية بالمقهى الريفي ...
الدنيا سكوت !! إلا من نفيق ضفادع الترعة بالطريق الزراعي .. ...
الدنيا ظلام !! إلا من أنوار خافتة للسهارى فى بعض نوافذ ومداخل البيوتات الصغيرة.
..
على أثر صراخ الطفلتين استيقظ العم (عبد الراضي) البائع النائم على تراب دكانته، .. استيقظت (أم صابر) الفلاحة بحثا عن حلتها لتحلب اللبن ( !! )
.. ..
تعب الليل ... أرخي عباءته وغطي حزنها، .. وأسلمه للفجر وقفت هي المدهوشة المحروسة بشالها الحريري تنظر من الشرفة، تحجب الرؤية العمارات الفارهة الصاعدة ...
تناجي سنابل الشمس الغاضبة على سنابل الخضرة، أغمضت عينيها ... ساحت اللحظات الطازجة كرغوة الحليب ( !! )
..
تأتي إلى مسامعها أصوات من الطفولة السحيقة حب العصافير وكركرات عشقهم ..، زغاريد النهار المولود من نشاط العمات والخالات ( !! ) تُصافح الورود من سكون الصبح الندي.
ضحك النهار (!!)
بانت أساريره (!!)
رعشة .. يومية بدأت مع رعشة من يديها!
بدأ الشروق ممتدا لساعات طويلة، والمدينة كعروس تلف خجلها بزركشة الفجر!
رائحة عذرية تنطلق من وجنات الصبح فواحة، ندية!
ينتشر شذا العطر فوق أسطح المنازل وحول العربة البيضاء التي تحملها إلى مطار السيب. مستيقظ هو من سباته العميق، ويقظة هي أسفل شالها الحريري تتوسط طفلتيها النائمتين بالمقعد الخلفي !!
قالوا .. الساهرون على توثيق الأمتعة .. الحقائب فى السيارة الخلفية .. والطفلتان وأمهما في السيارة الأمامية، نسيمات الهواء الدافئ ناوشت قمم الجبال، فانبثق رذاذ خفيف رطب، على جانبي الطريق !!
... ...
قال بعد أن استدار للوراء بنبرات الصوت أولي الكلمات انسلت إلى مسامعها. باتت معها. تيقظت معها هناك !!
حمل الطفلين على كتفيه ومسح عرقه وربت على كتفيها !!..
السيارة تتخبط بهم جميعاً. يتوقف بالعربة عند الأكشاك الصغيرة،.. ليرمى بقطع النقود الفضية والورقية المدسوسة بورق أبيض أمام الأكشاك الصغيرة.
..
هي .. قابعة ناحية اليسار ومحروسة بشالها الحريرى ونظارتها الشمسية ( !! )
هي .. قابعة ناحية اليسار ومدهوشة، تأخذها الدهشة وتجري بأوصالها. تحاول أن تخفيها بطبطبات الأنامل على ظهري طفلتيها وهما عالقتان بكتفيها.
..
صرخت الطفلة الكبرى " لا " لا .. لن أدخل هذا البيت بيتي في مسقط .. بيتي فى مسقط"
..
صرحت الطفلة الصغرى .. تحك بأضافرها جلدها. تنتشر البثور سريعاً دائرية ملتهبة.
.. الأم المدهوشة منفعلة، تحاول إسكات الطفلتين
..
الدنيا سكوت !! إلا من الصوت المنبعث من حركة الملاعق القديمة والأكواب الزجاجية بالمقهى الريفي ...
الدنيا سكوت !! إلا من نفيق ضفادع الترعة بالطريق الزراعي .. ...
الدنيا ظلام !! إلا من أنوار خافتة للسهارى فى بعض نوافذ ومداخل البيوتات الصغيرة.
..
على أثر صراخ الطفلتين استيقظ العم (عبد الراضي) البائع النائم على تراب دكانته، .. استيقظت (أم صابر) الفلاحة بحثا عن حلتها لتحلب اللبن ( !! )
.. ..
تعب الليل ... أرخي عباءته وغطي حزنها، .. وأسلمه للفجر وقفت هي المدهوشة المحروسة بشالها الحريري تنظر من الشرفة، تحجب الرؤية العمارات الفارهة الصاعدة ...
تناجي سنابل الشمس الغاضبة على سنابل الخضرة، أغمضت عينيها ... ساحت اللحظات الطازجة كرغوة الحليب ( !! )
..
تأتي إلى مسامعها أصوات من الطفولة السحيقة حب العصافير وكركرات عشقهم ..، زغاريد النهار المولود من نشاط العمات والخالات ( !! ) تُصافح الورود من سكون الصبح الندي.
الجملة الثالثة
-1-
جاءت الجملة الأولي ومن بعدها الثانية محتملة بعض الشيء أن تكون صورة مشابهة لها.
لكن الجملة الثالثة، كانت يقينية وفاصلة أكيدة وقاصمة.
انهالت اسما وفعلا وحرفا على الجسد النحيل كضربات سوط غليظ مكوناتها ومفرداتها تتناولها من أخرها. إلى أولها . مظهرها مخبرها . سكناتها تحركاتها.
أنهن يتحدثن عنها أذن !!
ولا محال انها قابعة الآن تندفس وتختبئ بين أوراق المفكرة الواهية.
صباح مثل كل الصباحات الجديدة على قلب نجوى .. شاق وغريب ربما .. تتحمله .. تتحمل القلق اليومي .. أصوات العربات فى بكور اليوم .. ساعات العمل الممل، تبلد الأطفال الصغيرة وطنين الذباب الملتف حول الأفواه والأنوف.
الشيء الوحيد الذي لا تتحمله، تلك التجميعة حول المنضدة اللعينة من وقت الفسحة، حيث المربيات المعلمات بأجسامهن السمينة الملظلظة وأحاديثهن المقززة من أول ساعة لأول يوم تفتح فيه البوابة الحديدية السوداء حيث تفضى إلى طرق جبلية وعرة .. وتقرأ اليافطة المعلقة أعلاها "حضانة الطيور الصغيرة".
-2-
رغم سواد لونه. فقد لمع بضوئه وسط الحجرة المظلمة بالمصابيح المضاءة، ولما انبعثت منه الدقات وحركت أرجاء المكان الكلمات (هنا .. القاهرة).
انتفضت. هبت من مكانها. القت بالأوراق والأقلام اتجهت ناحية الصوت تراءت أمامها الصور والأخيلة، ذرفت دموعها المتحجرة. نامت مسامعها بجانبه مستندة على المائدة الخشبية.
تيقظت نجوى فى هذا المساء.
وفي كل الأمسيات !!
أمسيات القرية، تنام نجواها وتصحو مع هذا المذياع الصغير تصادفه. ترافقه. تضغط عليه برفق. ثم بهدوء اللهفة تدير المؤشر !!
يمينا ويساراً تحاول جاهدة إخفاء صوت الخربشة والرجرجة الهوائية .. إلى أن تصفر المحطة الإرسالية وتصل إلى مسامعها الكلمات الحبيبات أكثر صفاء ونقاء وتتشعب من الأحرف الثلاثة للوطن إلى أزمنة ثلاثة، حيث الصباحات الحلوة، يتجمع فيها الباعة والمتجولون. تدفئهم شمس السابعة .. ثم الظهيرة النائمة، تدفئ طريق من يعملون وتلبسهم أثواب المحبة والسكينة !!.
فى الأمسيات الطيبة، تحرس الأضواء الليلية على أبواب الدكاكين والبيوتات والمآذن الألف للبلد المحروسة!!
تصغي نجوى إلى كل كلمة، تردد بصوتها المبحوح مع صوت المذياع "المحروسة".
تسمو الروح مع هذا الشجن الخفي المتسرب من كلمات الأغنيات ترتحل كالطيور المهاجرة مع "البرامج" التي طالما حرصت على سماعها منذ الطفولة. حتى موسيقاها التي كانت تصور الوقت والأمكنة والتي تصور الآن الذكرى والأحاسيس المؤلمة.
تعرفها نجوى وتنفعل بها، وتوقظ كل النائمات فيها، وتخمش أوتارها الخفية. ثم تجسد صور الوطن الحضن وتأتي صورتها.
أستاذة، ملموم شعرها، ومختبئ وجهها وراء النظارة الطيبة، ونائم لون ثوبها البسيط المتواضع بينما صوتها يصحو وهي تلقي المحاضرات فى مادة الهندسة الوصفية !!
خطواتها الثابتة المتأنية وهي تدخل وتخرج بين المعامل والمدرجات الواسعة من الجامعة.
تغلق المذياع
تمسك بدفتر صغير، تغلفه صور الطيور والأطفال وتملأ خانات الحصص اليومية.
أفكار ذهنها تختلط. تهدئ من أمواجها المتلاطمة. يعلو صوت المناقشات الجامعية .. وتسمو الأمواج مع صوت البراعم وهي تحفظهم "أنا طفل صغير".
في الباص
وفي طريق صباحي يومي إلى المدرسة
تستند إلى الشباك. ترتب ما تبعثر من أوراق المفكرة تفتح وتغلق الحقيبة السوداء، التي بهت لونها، وانبرت القشرات الجلدية وكادت أن تنخلع يدها المعدنية وتهرب من جسد الحقيبة.
تأكد أخيراً من وجود دفتر صغير تتماوج ألوانه الزاهية لتوقظ طيورا نائمة.
الطريق طويل، والأشجار تعود إلى الوراء، بينما الجبال ثابتة على حافتيه تراجع فى ذهنها عناوين كبيرة لآخر أبحاثها العلمية تجذبها حركات طفولية للبنات والأولاد الصغار بمريولهم الأزرق وتغلق ضحكاتهم وصراخهم باب تفكيرها العميق.
المشرفة على الباص تطلب من الأطفال الهدوء .. تعد واحدة، واثنان، ثلاثة.
قالت نجوي مبتسمة:
- لقد امتلأ الباص يا ..
- شاهيناز .. اسمي شاهيناز
اقتربت نجوى تهمس فى أذن تختفي وراء طرحة مزركشة – أريد أن تخبريني بأسماء العاملات والمربيات أومأت "شاهيناز" برأسها:
- ولو...
" نحنا نخدمك بعيونا يا أبله نجوى.
عند الباب الأسود الحديدي. توقفت العربة. هبط شريط يختلط لونه ما بين الأزرق والأبيض. بعد دقائق تشكل طابور الصباح.
استقلت نجوى بركن جنبي. تتأمل العلم القماشي، تتذكر منذ كانت طفلة. تتأمل نفس الألوان. بدون النجمتين الجميلتين.
فى حجرة الدرس. أمسكت بالطباشير. تخط التاريخ الهجري والميلادي. تربت على كتف طفلة صغيرة .. تتنقل بين الأطفال بحنان. تشدو معهم الألحان.
دق جرس الفسحة
من وراء أشجار الحديقة. كان هناك مقعد وحيد مقعد غير بعيد عن مكان التجميعة اليومية.
كانت الأوراق والأقلام بيدها مجهدة ومتعبة
اختارت أن تستريح على المقعد.
جاءت الجملة الأولي ومن بعدها الثانية محتملة بعض الشيء أن تكون صورة مشابهة لها.
لكن الجملة الثالثة كانت يقينيه وفاصلة، أكيدة وقاصمة انهالت اسما وفعلاً وحرفاً على الجسد النحيل كضربات سوط غليظ. مكوناتها. مفرداتها تتناولها من أخرها إلى أولها مظهرها، مخيرها ... سكناتها .. تحركاتها. أنهن من وراء الأشجار، حول المنضدة يتحدثن عليها تمنت أن تنشق الأرض مرة واحدة وتبتلعها .. أن تحدث معجزة. زلزال، عاصفة، أي حادثة ... المهم أن تبتلعها ارض المكان.
كانت تحسد حشائش الأرض، وحتى الخفافيش الصغيرة، لأنها بدون أذان.
ضربت بقدمها اليسرى. هل تنغرز وترفس في هذه الخضيرات؟ كلا. فالحشائش واهية والأرض الآن كالكلمات مريرة وقاسية.
ارتعش بيمينها القلم. سقط على الأوراق. مسحت العرق النابت على جبينها والمتصبب كالنهر.
مرة واحدة. انفرجت أصابعها العشر. استدلت كالستار يسد الأذنين لهذا السيل الهائج من الضحكات والغمزات المنهمرة، كضربات السوط التي لا تعرف التوقف تضغط عندما يعلو صوت السوط وعندما يعلو أكثر تضغط أكثر وأكثر ... تنفلت من بين الأصابع عذابات وسخونة.
وقفت تتأهب للهروب. شعرت بتثاقل لم تعهده، تسرب شيئاً فشيئاً من الرأس إلى أخمص القدمين، جلست تسمرت على الكرسي الخشبي. ارتطمت بحافته المعدنية وبجلسته الكنزة المتدانية من الأرض.
نشرت فى جريدة عمان
20 ابريل 1997
-1-
جاءت الجملة الأولي ومن بعدها الثانية محتملة بعض الشيء أن تكون صورة مشابهة لها.
لكن الجملة الثالثة، كانت يقينية وفاصلة أكيدة وقاصمة.
انهالت اسما وفعلا وحرفا على الجسد النحيل كضربات سوط غليظ مكوناتها ومفرداتها تتناولها من أخرها. إلى أولها . مظهرها مخبرها . سكناتها تحركاتها.
أنهن يتحدثن عنها أذن !!
ولا محال انها قابعة الآن تندفس وتختبئ بين أوراق المفكرة الواهية.
صباح مثل كل الصباحات الجديدة على قلب نجوى .. شاق وغريب ربما .. تتحمله .. تتحمل القلق اليومي .. أصوات العربات فى بكور اليوم .. ساعات العمل الممل، تبلد الأطفال الصغيرة وطنين الذباب الملتف حول الأفواه والأنوف.
الشيء الوحيد الذي لا تتحمله، تلك التجميعة حول المنضدة اللعينة من وقت الفسحة، حيث المربيات المعلمات بأجسامهن السمينة الملظلظة وأحاديثهن المقززة من أول ساعة لأول يوم تفتح فيه البوابة الحديدية السوداء حيث تفضى إلى طرق جبلية وعرة .. وتقرأ اليافطة المعلقة أعلاها "حضانة الطيور الصغيرة".
-2-
رغم سواد لونه. فقد لمع بضوئه وسط الحجرة المظلمة بالمصابيح المضاءة، ولما انبعثت منه الدقات وحركت أرجاء المكان الكلمات (هنا .. القاهرة).
انتفضت. هبت من مكانها. القت بالأوراق والأقلام اتجهت ناحية الصوت تراءت أمامها الصور والأخيلة، ذرفت دموعها المتحجرة. نامت مسامعها بجانبه مستندة على المائدة الخشبية.
تيقظت نجوى فى هذا المساء.
وفي كل الأمسيات !!
أمسيات القرية، تنام نجواها وتصحو مع هذا المذياع الصغير تصادفه. ترافقه. تضغط عليه برفق. ثم بهدوء اللهفة تدير المؤشر !!
يمينا ويساراً تحاول جاهدة إخفاء صوت الخربشة والرجرجة الهوائية .. إلى أن تصفر المحطة الإرسالية وتصل إلى مسامعها الكلمات الحبيبات أكثر صفاء ونقاء وتتشعب من الأحرف الثلاثة للوطن إلى أزمنة ثلاثة، حيث الصباحات الحلوة، يتجمع فيها الباعة والمتجولون. تدفئهم شمس السابعة .. ثم الظهيرة النائمة، تدفئ طريق من يعملون وتلبسهم أثواب المحبة والسكينة !!.
فى الأمسيات الطيبة، تحرس الأضواء الليلية على أبواب الدكاكين والبيوتات والمآذن الألف للبلد المحروسة!!
تصغي نجوى إلى كل كلمة، تردد بصوتها المبحوح مع صوت المذياع "المحروسة".
تسمو الروح مع هذا الشجن الخفي المتسرب من كلمات الأغنيات ترتحل كالطيور المهاجرة مع "البرامج" التي طالما حرصت على سماعها منذ الطفولة. حتى موسيقاها التي كانت تصور الوقت والأمكنة والتي تصور الآن الذكرى والأحاسيس المؤلمة.
تعرفها نجوى وتنفعل بها، وتوقظ كل النائمات فيها، وتخمش أوتارها الخفية. ثم تجسد صور الوطن الحضن وتأتي صورتها.
أستاذة، ملموم شعرها، ومختبئ وجهها وراء النظارة الطيبة، ونائم لون ثوبها البسيط المتواضع بينما صوتها يصحو وهي تلقي المحاضرات فى مادة الهندسة الوصفية !!
خطواتها الثابتة المتأنية وهي تدخل وتخرج بين المعامل والمدرجات الواسعة من الجامعة.
تغلق المذياع
تمسك بدفتر صغير، تغلفه صور الطيور والأطفال وتملأ خانات الحصص اليومية.
أفكار ذهنها تختلط. تهدئ من أمواجها المتلاطمة. يعلو صوت المناقشات الجامعية .. وتسمو الأمواج مع صوت البراعم وهي تحفظهم "أنا طفل صغير".
في الباص
وفي طريق صباحي يومي إلى المدرسة
تستند إلى الشباك. ترتب ما تبعثر من أوراق المفكرة تفتح وتغلق الحقيبة السوداء، التي بهت لونها، وانبرت القشرات الجلدية وكادت أن تنخلع يدها المعدنية وتهرب من جسد الحقيبة.
تأكد أخيراً من وجود دفتر صغير تتماوج ألوانه الزاهية لتوقظ طيورا نائمة.
الطريق طويل، والأشجار تعود إلى الوراء، بينما الجبال ثابتة على حافتيه تراجع فى ذهنها عناوين كبيرة لآخر أبحاثها العلمية تجذبها حركات طفولية للبنات والأولاد الصغار بمريولهم الأزرق وتغلق ضحكاتهم وصراخهم باب تفكيرها العميق.
المشرفة على الباص تطلب من الأطفال الهدوء .. تعد واحدة، واثنان، ثلاثة.
قالت نجوي مبتسمة:
- لقد امتلأ الباص يا ..
- شاهيناز .. اسمي شاهيناز
اقتربت نجوى تهمس فى أذن تختفي وراء طرحة مزركشة – أريد أن تخبريني بأسماء العاملات والمربيات أومأت "شاهيناز" برأسها:
- ولو...
" نحنا نخدمك بعيونا يا أبله نجوى.
عند الباب الأسود الحديدي. توقفت العربة. هبط شريط يختلط لونه ما بين الأزرق والأبيض. بعد دقائق تشكل طابور الصباح.
استقلت نجوى بركن جنبي. تتأمل العلم القماشي، تتذكر منذ كانت طفلة. تتأمل نفس الألوان. بدون النجمتين الجميلتين.
فى حجرة الدرس. أمسكت بالطباشير. تخط التاريخ الهجري والميلادي. تربت على كتف طفلة صغيرة .. تتنقل بين الأطفال بحنان. تشدو معهم الألحان.
دق جرس الفسحة
من وراء أشجار الحديقة. كان هناك مقعد وحيد مقعد غير بعيد عن مكان التجميعة اليومية.
كانت الأوراق والأقلام بيدها مجهدة ومتعبة
اختارت أن تستريح على المقعد.
جاءت الجملة الأولي ومن بعدها الثانية محتملة بعض الشيء أن تكون صورة مشابهة لها.
لكن الجملة الثالثة كانت يقينيه وفاصلة، أكيدة وقاصمة انهالت اسما وفعلاً وحرفاً على الجسد النحيل كضربات سوط غليظ. مكوناتها. مفرداتها تتناولها من أخرها إلى أولها مظهرها، مخيرها ... سكناتها .. تحركاتها. أنهن من وراء الأشجار، حول المنضدة يتحدثن عليها تمنت أن تنشق الأرض مرة واحدة وتبتلعها .. أن تحدث معجزة. زلزال، عاصفة، أي حادثة ... المهم أن تبتلعها ارض المكان.
كانت تحسد حشائش الأرض، وحتى الخفافيش الصغيرة، لأنها بدون أذان.
ضربت بقدمها اليسرى. هل تنغرز وترفس في هذه الخضيرات؟ كلا. فالحشائش واهية والأرض الآن كالكلمات مريرة وقاسية.
ارتعش بيمينها القلم. سقط على الأوراق. مسحت العرق النابت على جبينها والمتصبب كالنهر.
مرة واحدة. انفرجت أصابعها العشر. استدلت كالستار يسد الأذنين لهذا السيل الهائج من الضحكات والغمزات المنهمرة، كضربات السوط التي لا تعرف التوقف تضغط عندما يعلو صوت السوط وعندما يعلو أكثر تضغط أكثر وأكثر ... تنفلت من بين الأصابع عذابات وسخونة.
وقفت تتأهب للهروب. شعرت بتثاقل لم تعهده، تسرب شيئاً فشيئاً من الرأس إلى أخمص القدمين، جلست تسمرت على الكرسي الخشبي. ارتطمت بحافته المعدنية وبجلسته الكنزة المتدانية من الأرض.
نشرت فى جريدة عمان
20 ابريل 1997
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)